عن زليخة أبو ريشة

عبد الغني سلامة
حجم الخط
حين قرأت مقالة الكاتبة "زليخة ابو ريشة" لأول مرة (المنشورة في الغد الأردنية 28-6-2016) لم أعرها اهتماماً كبيراً، لأني لم أجد فيها ما هو جديد، أو غريب.. ولكن، حينما بدأت الحملة التحريضية على الكاتبة، ظننتُ أنها تشن بسبب مقال آخر، أو إني لم أنتبه لما بين السطور.. فعدت وقرأت المقالة مراراً وتكراراً علّني أجد سبباً مقنعاً لهذه الحملة الشعبوية.
تذكرتُ حينها الحملات الشعبوية على سلمان رشدي، ونصر حامد أبو زيد، وصادق جلال العظم، وعلى الرسوم الكاريكاتورية والأفلام التي أساءت للرسول الكريم.. مع التحفظ على بعضها، والأخذ بعين الاعتبار الفروقات الكبيرة في محتوى ومضمون ما سبق ذكره.. ووجدت أن القاسم المشترك بينها هو ردة الفعل العنيفة من قبل الجمهور؛ والتي كانت في كل مرة استجابة عفوية (يعني دون تفكير) من قبل أناس لم يقرؤوا الكتب التي ثاروا ضدها، ولم يشاهدوا لا الرسومات ولا الأفلام التي أشعلوا الأرض من أجلها.. وتذكرتُ اعترافات قاتل "فرج فودة"، حين قال: إنه أُمّي، لا يقرأ ولا يكتب!
الملاحظة الأولى على ردود الفعل، أن الأغلبية الساحقة من الغاضبين لم يقرؤوا المقال، واكتفوا بقراءة العنوان، أو الاستجابة لأحد المحرّضين، وهذا واضح من خلال متابعة الردود والتعليقات.. بل إنهم أخذوا يزيدون من عندهم، ويقولون ما لم تقله الكاتبة.. وهذا نهج خطير، فقد تركزت الاتهامات ضد الكاتبة بأنها تدعو لإغلاق دور تحفيظ القرآن الكريم، علماً أن المقالة خلت من أي عبارة تدل حصراً على دور تحفيظ القرآن.. والملاحظة الثانية هي أن جميع الردود تقريبا كانت موجهة ضد الكاتبة شخصيا، وعدد محدود جدا منها تناول موضوع المقال، وحاولت مناقشته.. وحتى أولئك الذين ناقشوه انطلقوا من أحكام مسبقة، وتوصيفات جاهزة مكررة.
الغريب أن أغلب الجمهور (من المفترض أنهم مسلمون متقون) نعتوا الكاتبة بأقبح الصفات (خلافا لأدب الحوار في الإسلام)، وتركزت التوصيفات على سِنها وشكلها!! وهي نفس التوصيفات التي يطلقونها على نوال السعداوي (عجوز شمطاء، وجهها مثل القرد، شكلها بخزي...) فهل يجب أن تكون الكاتبة شابة حسناء! هل يعيبها كبر سنها! أليس هذا ما نهى عنه القرآن الكريم!
لا أحاول الدفاع عن الكاتبة، ولا عن مقالها.. ما يهمنا هنا هو تحليل الظاهرة الشعبوية، وفهم أسباب وحيثيات اشتعالها مثل كومة قش إزاء أحداث معينة، وصمتها صمت القبور إزاء أحداث جسيمة ومهمة!! حيث نلاحظ عادة أن أحد المحرضين، والذي غالبا ما له أسباب خاصة أو حزبية أو أيديولوجية يقوم بتثوير العامة، مستخدما كل الأساليب الدوغمائية... هل تذكرون حملة التشويه على "توجان الفيصل" قبيل بدء موسم الانتخابات النيابية في الأردن (1989)، حيث كانت تعتزم ترشيح نفسها.. هل تذكرون الحملة ضد المنتجات الدنماركية (2007) والتي تبين أن وراءها شركات أميركية منافسة، وحتى الحملة ضد رسومات البوكيمون اليابانية (2001) والتي كانت وراءها "والت ديزني" و"هوليود" الأمريكية..
من حق كل إنسان أن يعبر عن رأيه، سواء بمدح أو بانتقاد أي شخص أو أي ظاهرة، و"زليخة أبو ريشة" ليست منزهة عن النقد، ولكن من الغريب أن ينتقد أحدهم الدولة لأنها اعتقلت "أمجد قورشة"، ويتهمها بانتهاك حرية التعبير، ويطالبها بالإفراج عنه.. ثم يأتي نفس الشخص ويطالب نفس الدولة بمحاكمة "أبو ريشة" وينسى قصة حرية التعبير.. يعني أنه يطالب بتطبيق القانون فقط عندما يأتي على هواه.
الخطير في الموضوع، أن مجموعة من الناس عينت نفسها ناطقة باسم الدين، ومحامية عنه، معتبرة أن كل من يختلف معهم بالرأي عدو للإسلام وحاقد عليه، ومتآمر على المسلمين.. وهؤلاء لا يريدون لأحد غيرهم أن يتحدث عن الدين، أو يقدم تصوراته عنه، أو يجتهد فيه.. يريدون احتكاره لهم "وكالة حصرية".. هؤلاء يخشون من النقد، أو التفكير بعقلية متحررة من سطوة النص؛ لأن ذلك يعريهم، ويكشفهم.. لذلك تراهم يحاربون كل من يخرج عن طوعهم بكل الوسائل، أولها التشويه، ثم الإقصاء، وأخيرا التصفية، وكانت لغة التهديد متفشية في تعليقات الغاضبين..
والخطير أيضا، محاربة النقد، والنظر إليه بريبة وتشكك، واعتباره تطاولا على الدين!! علما أن النقد هو الشرط الأساسي لنهوض الأمم وتقدمها، النقد يحطم التابوهات التي تعمينا عن رؤية الحقيقة، ويفتح لنا آفاق العلم والتحرر.. شريطة أن يُمارَس بالشكل الصحيح.. وفي المجال الديني بالذات؛ نحن أحوج ما نكون لعملية نقد أمينة وشجاعة وبنّاءة، تأخذ على عاتقها مهمة تجديد الفقه، وتنقيح التراث، ومعالجة التشوهات التي لحقت بالإسلام في الفترة الأخيرة.. وإلا سيسود النموذج المتشدد المتعصب، الذي تتبناه الكثير من الحركات الإسلامية، ونشهد نتاجاته يوميا على شكل تفجيرات وأحزمة ناسفة وخطاب كراهية طائفي مقيت.
لذلك، يجب انتقاد "زليخة"، وانتقاد من حاربها.. يجب انتقاد كل شيء، وكل شخص، ولكن على قاعدة الحوار والقبول المتبادل، لا بمنهج الإقصاء والنفي والتكفير.. هذا إذا أردنا أن نعبر للمستقبل.. أو أن نظل كما نحن: ظاهرة صوتية، وجمهور من الغوغاء، الغاضب بلا تعقل، يقودنا محرض بعقلية القطيع.