في الشهر الماضي تصاعدت من جديد ظاهرة الانفلات الأمني بشكل خطير، حتى أنه في ليلة واحدة شهدت البلدات الفلسطينية 12 حادثة أمنية، راح ضحيتها أناس أبرياء، فضلا عن عشرات الجرحى، وتم إحراق عدد من البيوت، وقد جرّت تلك الأحداث المؤسفة مزيدا من المآسي والويلات على عائلات كانت آمنة.
البعض علل ذلك بالصيام، والبعض اعتبره دليلا على فشل السلطة في فرض هيبة القانون.. هذه التفسيرات وغيرها قد تكون صحيحة بمعنى ما؛ فالسلطة غير قادرة على ضبط الأمن كما ينبغي. ومن جهة ثانية، يُلاحظ كل عام في شهر رمضان تزايد الشجارات والمشاكل العائلية بشكل أكثر من المعتاد.. ولكن هل السبب فقط عجز السلطة؟ أم في عدم احترامنا للقوانين الموجودة فعلا! وهل السبب في الصيام نفسه! أم أن الصيام كشف حقيقتنا المفجعة، وعرّانا أمام مرايانا الصادمة!!
من المفترض أن الصوم حالة تعبد روحانية، تهذب النفس وتمرنها على التحكم بالغرائز... لكن ما يحدث هو العكس.. والدين يدعو للرحمة والتواضع والإحسان، ومع أنه متغلغل في أعماقنا، ونجد عشرات الشواهد التي تذكرنا به كل ساعة وفي كل مكان، وبالرغم من ذلك نلاحظ أن تصرفات الناس عند ساعة الحقيقة تأتي معاكسة تماما للقيم الدينية التي تربوا عليها.. وهناك أكثر من سبب لهذه الظاهرة.
يقول د. «علي الوردي»: «ومن خصائص الطبيعة البشرية أنها شديدة التأثر بما يوحي العُرف الاجتماعي إليها من قيم واعتبارات، وشر المجتمعات تلك التي تتبع طريقةً معينةً في الحياة، في الوقت الذي ينصح واعظوها باتباع طريق آخر معاكس له». ويضيف: «حين نعِظُ الإنسان، لا نؤثر إلا في عقله الظاهر فقط، أما عقله الباطن فهو لا يفهم من مواعظنا شيئاً، إذ هو مشغول بما يوحي إليه العرف الاجتماعي من قيم واعتبارات». والعرف الاجتماعي السائد عندنا هو العقلية القبلية.
ويضيف «الوردي»: «وقد كان ضرر الوعظ بليغاً في تكوين الشخصية الإسلامية؛ إذ كان ينشد أهدافاً معاكسة لقيم العرف الاجتماعي، فأدى إلى صراع نفسي من ناحية، وإلى قلق اجتماعي من ناحية أخرى، وهذا الوضع لا يمكن أن يدوم طويلا، فهو تأزم لا بد أن ينتهي إلى حل عاجلاً أم آجلاً». وقد أدى في الواقع إلى التطرف والغلو عند البعض، وإلى ازدواجية الشخصية عند الأكثرية؛ حيث كان الحل الأكثر رواجاً في المجتمع العربي ازدواج الشخصية، كي تستريح النفس من عذابات الضمير ونداءات العقل، وحتى تتفاعل مع الأعراف الاجتماعية بالطريقة التي تريحها.. بمعنى أنه تكونت للفرد شخصيتان؛ واحدة علنية تدّعي تمسكها بالقيم والمثُل، وثانية سرية تمارس غرائزها بطريقة معاكسة لقيمها.
ويضيف «الوردي»: «ولعل العرب مصابون أكثر من غيرهم من الأمم بهذا الداء، والسبب في ذلك أنهم وقعوا أثناء تطورهم الحضاري تحت تأثير عاملين متناقضين، هما البداوة والإسلام؛ حيث تحرّض قيم البداوة على الكبرياء وحب الرئاسة وتفتخر بالأنساب، أما الإسلام فهو دين الخضوع والتقوى والعدالة والمساواة».
وقد عمّق الواعظون من هذه الأزمة؛ فلم يقرّبوا أسلوب وعظهم من الواقع الذي يعيشه الناس، وخاطبوهم من أبراج عاجية، ولم ينزلوا إلى مستواهم؛ حيث مشاكلهم اليومية وقضاياهم المعاشية والدنيوية، وبهذا تكونت فجوة واسعة بين واقعية الحياة ومثالية الفكر عندهم.
على صعيد آخر، وبالعودة للمجتمع الفلسطيني، سنجد أنه أثناء تطوره السسيولوجي تداخلَ فيه الحاضر مع الماضي، القانوني مع الديني، السياسي مع الاجتماعي، كما اقترن الفقر والبطالة والانحراف والفساد مع أشكال التكافل الاجتماعي والترابط العائلي والقبلي.. كل هذا كان يتفاعل في مجتمع دون دولة (بالمعنى السيادي).. ويخضع لاحتلال.. مع الأخذ بعين الاعتبار أنه ظل مجتمعا فلاحيا بالعموم، حتى مدنه العريقة، لم تتطور بالقدر الكافي لتكتسب صفات المجتمع المدني، وظل المجتمع بأسره خاضعا لتأثير القبيلة، والثقافة القبلية.. ليس على المستوى الاجتماعي وحسب؛ بل وعلى المستوى السياسي والحزبي والنخب الحاكمة والمهيمنة، لذلك أخفق في ثوراته وانتفاضاته، لأن العقلية القبلية كانت تبرز كل مرة، وتفعل أفاعيلها.
وللأسف، ظل هذا حال المجتمع الفلسطيني حتى بعد قرن كامل من الكفاح الوطني، واختبار عشرات المعارك العسكرية والسياسية، وتفجير أطول ثورة مسلحة في التاريخ الحديث، تخللها العديد من الانتفاضات الشعبية، وبعد عقود من الاحتكاك بالعالم والحضارة الإنسانية، بما في ذلك احتكاكه بالجانب الإسرائيلي (ليس على صعيد المقاومة وحسب؛ بل وعلى صعيد تفاصيل الحياة اليومية)... حيث من المفترض بعد كل هذه التجارب المريرة، وبعد خبرة طويلة من العمل السياسي والحزبي أن يكون هذا الشعب قد تجاوز طور القبيلة، وتخلص من الكثير من الموروثات السلبية، خاصة وأنه يتمتع بأقل نسبة أمية على المستوى العربي، وأعلى نسبة جامعيين، ولديه مئات الحالات المميزة في كافة المجالات.
ولكن، في حقيقة الأمر، عندما شكّلنا النقابات والأحزاب والفصائل (اليسارية والعلمانية والإسلامية) شكلناها بعقلية قبلية، وحين مارسنا الانتخابات مارسناها بعقلية قبلية، وعندما خضنا الانتفاضات خضناها بنفس العقلية.. لذلك ليس غريبا أن نخوض «طوشاتنا» بعقلية قبلية.
والعقلية القبلية تقتضي أنه بعد كل «طوشة»، يجب تدخُّل الجاهات، لتفرض نفسها بديلا عن القانون، وحتى في الحالات التي تحاول المؤسسة الرسمية أن تفرض سيادتها تبدأ الواسطات والمحسوبيات!! كما تعني الذهنية القبلية التعامل مع القانون بانتقائية، واحترامه فقط حين يكون في مصلحة الفرد! أما إذا جاء معاكسا لمصالح الفرد، أو حتى إذا تأخر في تلبيتها فإنه ينقلب عليه! إذن، ماذا ينفع القانون في مجتمع قبلي؟ وكيف سنبني مؤسساتنا بعقلية قبلية؟
قبل أن نطالب السلطة باتخاذ إجراءات صارمة (وهذا مطلب ضروري وملح) يجب أولا مراجعة منظومتنا الأخلاقية، والاعتراف بكل موروثاتنا السلبية، والبدء بتعميم ثقافة المجتمع المدني، ومأسستها.. حيث يكون الولاء للمجتمع والدولة والنظام، والمعيار هو القانون وحقوق المواطَنة، وحيث تعلو الهوية الوطنية على الهويات الفرعية.. وخلاف ذلك، سنظل قبائل وعشائر تتربص ببعضها، وسيظل السلم الأهلي هشّاً، مثل الهشيم في يوم قائظ، بوسع أي موتور أن يشعله.
عناوين الصحف الفلسطينية السبت 7 أكتوبر 2023
07 أكتوبر 2023