في أوقات ليست بعيدة، كان تطبيع العربي والفلسطيني مع كيان الاحتلال في فلسطين يُعتبر ممارسة مذمومة جداً على أقل تقدير. بل إن الأنظمة العربية كانت تعتقل الذي يتواصل مع الكيان وتجرمه بجريمة الاتصال والتخابر مع العدوّ. وفي الحقيقة، لم تتغير الأسباب التي تجعل وجود المحتلين الأوروبيين في فلسطين تكويناً ضاراً وغير طبيعي في المنطقة. ولم تتغيَّر أيضاً المعايير الأخلاقية والقانونية التي تعتبر احتلال أرض الناس وتشريدهم قهراً وقتلهم واعتقالهم، أعمالاً لا يمكن أن يتسامح معها أيُّ ضمير حيّ.
مع ذلك، تغيَّرت النظرات في فترة وجيزة نسبياً إلى التعامل مع العدو. لم يعد اللاأخلاقيون الذين يساعدون كيان احتلال وحشي على تطبيع نفسه في المنطقة وشرعنته أفراداً معزولين يُطبِّعون تحت طائلة الخوف والعار، وإنما تحوَّل التطبيع إلى ممارسة مؤسسية ورسمية يُفرض على الناس التعامل معها كحاضر طبيعي في ذاته.
بذلك دخلنا في السنوات الخمس الأخيرة أو نحو ذلك طور تطبيع التطبيع، بحيثُ أصبح تعاون الأنظمة العربية نفسها مع الكيان عملاً ليس معنياً كثيراً بإخفاء نفسه. وآخر التبريرات، هي حاجة النظام العربي المأزوم إلى مساعدة الكيان لحماية نفسه من عدوٍّ جديد يُصنَّف على أنَّه أخطر من "إسرائيل" نفسها. ويبدو أن العرب المطبِّعين بهذا الوضوح يستخدمون المقولة الشائعة، وإنما منزوعةٌ من سياقاتها تماماً: "عدو عدوي هو صديقي". وربما يتصور هؤلاء أن التذرع بالتكتيك والبراغماتية يمكن أن يلغي المقدمة التي يستحيل إلغاؤها: أنَّ عدو عدوي في هذه الحالة هو عدوِّي الذي لا يعرض أيَّ شيء يجعله غيرَ ذلك.
معظم القراءات التي تحاول استكشاف أزمة العرب الطاحنة، وضعت وجود كيان الاحتلال في فلسطين بكيفياته المعروفة دائماً في أول مسببات الأزمة. كان الاحتلال، والمعايير المزدوجة التي تعامل بها الغرب مع قضية فلسطين، سبباً دائماً في إحباط العرب ودفعهم إلى التطرف. وكان وجود الاحتلال سبباً في تبرير وجود الأنظمة العسكرية والأحكام العرفية التي عززت هذا الإحباط. وكان الإنفاق العسكري وتضخيم الجيوش على حساب قوتِ العرب وسبل عيشهم، بذريعة الحرب مع الكيان، سبباً في إفقار الناس والتحايل على سلبهم والسمسرة عليهم، وتعظيم شعورهم بالقهر. وإذا كان أعداء اليوم المتصورون يستقوون على العرب، فلأن الكيان -للأسباب المذكورة وغيرها- ساهم بقوة في إضعاف العرب وجعلهم مطمعاً لطالبي النفوذ الإقليميين. أما كيف سيساعد التعاون مع "إسرائيل" وتعزيز نفوذها الإقليمي في حماية الإسلام السني وأمن العرب من أطماع الجيران الآخرين، فحكمة يحتاج فهمها إلى مستوى ذهني بكفاءة عقول صانعي قرار تطبيع عدو للاحتماء من عدو، لا أقل.
أتصوَّر أن تطبيع التطبيع بدأ مع حرب الخليج الأولى على العراق، ثم استغلال هزيمة الروح العربية الجمعية لتمرير مؤتمر مدريد للسلام، كأول تعامل معلَن مع كيان الاحتلال. وكما تبيَّن، تم اصطياد الفلسطينيين الرسميين، على أساس وعود الدول الكبرى بمنحهم وطناً وتطبيق القرارات الدولية الخاصة بقضيتهم، وإجلاسهم مع العدو علناً. وبعد ذلك، كرّت المسبحة وأصبح تطبيع الفلسطينيين الرسميين عذراً لجلوس الآخرين مع الكيان وشرعنة الاحتلال في المنطقة. وبعد أن انتهت الأمور بالفلسطينيين الرسميين إلى العمل في خدمة الاحتلال، ناهيك عن تطبيعه، كما يتفاخر قادة الاحتلال نفسه ويُقدِّر الكثير من المراقبين، أصبَح من السهل أن تصوِّت دول عربية لصالح احتلال "إسرائيل" منصباً أممياً في الأمم المتحدة، أو أن تستضيف مكاتب تمثيل للكيان، أو أن تُشكل أحلافاً معه –والتنازل له عن فلسطين التاريخية، من أجل "حماية الأمن العربي والمصالح العربية".
مع ذلك، ثمَّة حجم معقول جداً من الرأي العام الفلسطيني والعربي الذي ما يزالُ يرفُض تطبيع احتلالٍ غير شرعي –وعلى حساب شعب عربي أيضاً. ومع أن هذا الرأيَ صاحب الضمير يُقصف يومياً بدعاية المطبعين وتبريراتهم، فإنَّ شمسَ الحقيقةِ في هذه المسألة المبدئية لا تُغطيها غرابيل التهاوُن والتنكر للضمير القانوني والأخلاقي. وأيضاً، كما بدأ تطبيع التطبيع من عند الفلسطينيين أنفسهم، فإن إعادة التأكيد على لاطبيعية الاحتلال ولاطبيعية تأبيد اللجوء الفلسطيني، ولاطبيعية التطبيع مع مُحتل قاتل، هي مسؤولية فلسطينية في المقام الأول. وسوف يعضدهُم دائماً أصحاب الضمير من الأشقاء والآخرين الذين لا يمكن أن يروا في احتلال أرض شعب واستمرار تشرده أي ملمح للطبيعية.
حكاية التطبيع مع التطبيع
08 أكتوبر 2023