تُقرأ الأحداث بنتائجها وليس بفاعليها فقط. ما جرى ويجرى فى تركيا أخيرا من انقلاب عسكرى وانقلاب على الانقلاب والمجتمع، هو زلزال تفجير تركيا من الداخل.
ما جرى بتركيا ويجرى من عمليات تمزيق وطنى وشروخ اجتماعية وضرب الجيش بالجيش والشرطة والميليشيات المدنية والتصفيات الجسدية والأخرى السياسية والاقتصادية والوظيفية ومختلف أشكال الإعدام الاجتماعى الجارية الآن، كل ذلك دفع تركيا للارتطام ببعضها البعض، فارتطمت على الأرض، فتكسرت، وتضعضعت. الفوضى الخلاقة ضربت تركيا. ولن تعود كما كانت. سبقناها ونفذنا بجلدنا ومازلنا نسعى. إنما مَن فعل هذا بتركيا.. ولماذا ولاية أهداف؟ لن أسأل كيف جرى ما جرى ولا بأى صورة، فبعض الوقائع جارية ومشهودة، والحدث برمته مفاجأة صاعقة تنطوى على ألغاز لم تفصح عن كل أسرارها بعد. أذكر جيدا أن مسؤولا مصريا سأل مسؤولا كبيرا فى مجلس الأمن القومى الأمريكى مع بداية ذيوع مصطلح «الفوضى الخلاقة»: - كيف تعمل هذه الفوضى فى الواقع، كيف تحدث عمليا؟
أجاب المسؤول الأمريكى: - مؤسسات تضرب مؤسسات ومجموعات داخل مؤسسات تضرب فى أخرى ومجتمع يضرب فى مجتمع.
ما حدث فى تركيا يعنى أنه مازال فى جعبة الفوضى الخلاقة الكثير والكثير من صور وأشكال تدمير الدول والمجتمعات، حتى تلك الدول التى استفادت مرحليا منها ومثلت مركزا إقليميا لها.
نظن أن هذا واقع فى حسبان وقراءة وتقدير الدول الإقليمية والدولية الآن، خاصة أن منها داخل الإقليم ما يقاوم حدوثها ويستخلص الدروس والعبر لتفاديها، ويخشى من أن تكون هناك جولة أو موجة جديدة من الفوضى الخلاقة بالمنطقة. هذا هو الحدث. هذا هو «المانشيت» بلغة أهل الصحافة، وليس مجرد الانقلاب والانقلاب على الانقلاب. وليس جدل الغرائز الفارغ من نوع انقلاب أم تمثيلية أو التصفيق المسىء لأى من الانقلابين.
ما جرى ويجرى فى عمق وأسس تركيا هو سحق الفئة الأكبر من السُّنة المتصوفة ذات القواعد الاجتماعية العتيدة والواسعة بوسائل التصفية والإعدام الاجتماعى بيد أقلية السُّنة من روافد الإخوان الذين يمثلهم أردوغان. كما جارت أقلية السُّنة ذاتها على العلويين، أصحاب الأغلبية الاجتماعية، أصحاب تركيا الحديثة، وأكبر طائفة علوية فى العالم، فضربت وأهانت أعز منجزاتهم ومؤسستهم العتيدة، ألا وهى الجيش التركى، جيش الأطلنطى الأكبر.
مكونات مثل هذه مليئة بكل عوامل الانفجار والتدمير، الذاتى والعابر للحدود التركية. وضع كهذا قد يدفع الجيش أو أقساما رئيسية منه إلى محاولة السيطرة على السلطة والمجتمع معا لتفادى الانهيار الوطنى وانتقاما لشرف الجيش وإذلال وقتل أفراده فى الشوارع، لكن تدخل الجيش مرة أخرى قد يواجَه بحركة مسلحة من جانب أقلية السُّنة، التى يمثلها أردوغان وما لم يحدث اتفاق دولى- إقليمى واضح وفعال وسريع على تأمين الكيان الوطنى التركى، فسيكون هذا إشارة إلى ترك الوضع التركى لتداعياته الذاتية ومعاناة الآخرين- من جواره ومنطقته- من إفرازاته وتوابعه ونتائجه، وأن هناك مصلحة دولية أو على الأقل من جانب أطراف رئيسية نافذة فى دخول تركيا فى دائرة النزاعات الداخلية على أساس العرق والطائفة الجارية حولها بضراوة، خاصة أن ما جرى حتى الآن فى تركيا يفتح الباب واسعا أمام الأكراد فى تركيا والعراق وسوريا وإيران، ولن يكونوا وحدهم. وساعتها لا تستبعد أن تستيقظ يوما، فتجدها مجرد إمارة من إمارات النزاعات العرقية والطائفية المجاورة لها الآن.
فى الحرب العالمية الثانية تم القضاء على الخلافة العثمانية، وخرجت تركيا بدولة أتاتورك، التى حاولت محاكاة أوروبا والانضمام إليها، وفى حرب الفوضى الخلاقة والإرهاب والنزاعات الطائفية والعرقية، يجرى القضاء على الخلافة الأردوغانية أو «العثمانية الجديدة»، وقد تخرج تركيا بمجرد إمارة طائفية تحكمها أقلية سُنية. ربما تحظى بوظيفة أمير طوائف فى المنطقة تحت الرعاية، ولن نقول الحماية الدولية.
أحداث تركيا تقول بوضوح: لم تعد خلافة هنا، لا أساس لها هنا، تم تدمير قاعدة الانطلاق. هنا فقط إمارات عرقية وطائفية صغيرة غير متحابة.
هل يكون هذا هو الهدف الأخير فى منطقة تجرى فيها إعادة ترسيم الجغرافيا والمجتمعات، كما جرى سابقا، فصار كل شىء قابلا للحدوث؟
ما صلة هذا كله باتفاقات «تحالف يالطة» الأمريكى- الإسرائيلى- الروسى الأخير مع أردوغان؟ أليست كل أطراف هذا التحالف مجتمعة أو منفردة ضد «الخلافة» مبدئيا، وليست من مصلحتها مثل هذه الخلافة؟
زِد على هذا أن أردوغان لم يفهم منذ البداية أن تورطه فى تدوير ماكينة الفوضى الخلاقة داخل المنطقة العربية بأدوات الإخوان والفروع المماثلة لن تكون له مكافأة بإمبراطورية بمسمى خلافة. وقد جاءت الأحداث الحالية لتقطع أمام كل ذى عينين بوضوح، ولابد أنها تخزق عينيه الآن: إنه لا خلافة هنا. وإن الاتفاقات مع تحالف يالطة والزلزال التركى، ومن قبل ذلك وقائع أخرى عديدة تقول شيئا واحدا لا غيره: الإمبراطور الإقليمى الوحيد المقبول فى الشرق الأوسط أمريكيا وروسيا ودوليا هو إسرائيل فقط لا غير. أليست هذه حقيقة؟
ويبقى السؤال المصرى: كيف نتعامل مع كل ذلك.. كيف نربح لا نسأل: كيف لا نخسر فقط؟
كلمة أخيرة وددت لو اتسعت لها صدور الجميع:
كنت أتمنى أن تتناول مصر الموضوع التركى من منظور أشمل وأن تدخل إليه من باب الدعوة إلى جهد دولى- إقليمى مشترك لاحتواء تداعيات الأحداث التركية وإحداث توافق تركى داخلى يحد من التداعيات الداخلية والخارجية، بما يوفره هذا من مجال واسع لتحقيق مصالح مصرية متعددة داخل تركيا ومع مختلف الأطراف الإقليمية والدولية ذات المصلحة، إلى جانب محاولة الحد من الانهيارات المتسارعة فى دول المنطقة.