يبدو أن هناك تحركاً متسارعاً بين الدول الكبرى المؤثرة في النزاع السوري حول موضوع محاربة التنظيمات الإرهابية وتخفيف حدة القتال في سورية، ودعم إمكانية استكمال المسار السياسي الذي تعثر في جنيف تزامناً مع إجهاض قرار وقف العمليات القتالية.
وزير الخارجية الأميركي جون كيري الذي طار مؤخراً إلى موسكو والتقى الرئيس فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرجي لافروف، تحدث عن خطوات ملموسة لتعزيز التعاون مع روسيا في قضايا يمكن الاتفاق حولها، مثل محاربة الإرهاب وإيصال المساعدات الإنسانية للسوريين المتضررين من جراء النزاع.
هذه الزيارة التي قام بها كيري إلى موسكو، تزامنت مع موجات التطرف والعنف التي تتسلل إلى الدول الأوروبية، فضلاً عن الاتهام الروسي الصريح للمبعوث الدولي الخاص إلى سورية ستيفان دي مستورا بخصوص تقاعس الرجل عن عمله تجاه الملف السوري.
أحداث الإرهاب التي تصاعدت في الآونة الأخيرة، وحملت بصمات تنظيم «داعش» الإرهابي في أكثر من دولة، من بينها الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وتركيا والحبل على الجرار، هذه الأحداث ولّدت ربما ضغطاً أوروبيا على واشنطن بأن تضع يدها بيد روسيا للتنسيق والتعاون لتطويق التنظيمات الإرهابية في سورية والعراق واحتواء تفريخاتها.
ربما هذا هو السبب الذي جعل كيري يذهب إلى روسيا ويتحدث عن خطوات ملموسة، فضلاً عن كون أن واشنطن لا تريد أن تنام على الملف السوري، بحيث أنها تريد القول إن لها حضورا مؤثرا في هذا الملف، وليست موسكو هي اللاعب الوحيد الذي يمكن أن ينفرد وحده في الملعب السوري.
على أن زيارة كيري واستتباع ذلك اتصال هاتفي مع نظيره لافروف، لا يمكنها بسرعة أن تحل القضايا الإجرائية التي تنوي واشنطن التركيز عليها، ذلك أن السياسة الأميركية في الملف السوري تستهدف أكثر من عامل، الأول أنها مع فكرة تثبيت هدنة بصرف النظر عن شموليتها أو جزئيتها، إنما أن تترجم على أرض الواقع وفي مدينة حلب تحديداً.
ثانياً: تريد واشنطن تحقيق اختراق في موضوع إيصال المساعدات الإنسانية لجهة تمكين منظمات الإغاثة والمنظمات الدولية من الوصول إلى المناطق المحاصرة، وثالثاً: تسعى إلى توسيع التحالف الدولي ضد الإرهاب وإشراك دول تحت مظلتها، حيث أعلنت من قبل عن موافقتها على انضمام روسيا إلى الحلف بشرط أن تقوده واشنطن.
رابعاً: لا ضرر بالنسبة للولايات المتحدة من مسألة استكمال المسار السياسي، اللهم أن يكون على هواها، وينسجم مع مواقفها، ولو أنها تتطلع للحديث عن القضايا الإجرائية التي يمكن الخوض فيها بسهولة، وتجنب التطرق إلى الملفات الصعبة.
هذا ما تريده واشنطن للملف السوري، باستثناء أن يُستجاب لموقفها السياسي، ولذلك كانت زيارة كيري غامضة في تفاصيلها، فقد تحدث في العموميات وفي إطلاق عناوين دون أن يتحدث في لب الموضوع وكيف يمكن حل النزاع السوري.
في زيارة موسكو تطرق وزير الخارجية الأميركي إلى موضوع الانتقال السياسي في سورية، لكنه لم يتحدث عن مستقبل الرئيس بشار الأسد، وأكثر ما فعل هو دعوته موسكو لممارسة الضغط على النظام السوري من أجل وقف النزاع هناك.
وفي اجتماع وزراء خارجية الدول المؤثرة في النزاع السوري الذي عقد بلندن قبل عدة أيام، حث وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون روسيا على التخلي عن دعم الرئيس بشار الأسد، رابطاً بين معاناة الشعب السوري المتفاقمة بسبب وجود الأسد في السلطة.
هذه الاجتماعات لا تزال تعكس الخلاف المستفحل بين الدول الكبرى المؤثرة في النزاع السوري، ذلك أن الموقف البريطاني من مسألة بقاء الأسد في السلطة، يعبر بشكل أو بآخر عن مواقف الكثير من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة.
غير أن الدول الغربية ترى الأولوية في محاربة التنظيمات الإرهابية في سورية والعراق، ويبدو أن الخطوات الملموسة في هذا الصعيد تستهدف تعاونا استخباراتيا أميركيا- روسيا- أوروبيا لضرب كل من تنظيم «داعش» وجبهة النصرة تحديداً.
أما بخصوص المسار السياسي فليس مستبعداً أن يعود إلى سكة المفاوضات كما كان في السابق، غير أن الوقائع والمعطيات الدولية باتت تهضم فكرة الموافقة على مرحلة انتقالية في سورية يقودها بشار الأسد إلى حين إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية.
قد يجوز أن الغرب استوعب ضمنياً بقاء الأسد في السلطة، أقله في مرحلة حسّاسة يمكن استثمارها في تضييق الخناق على التنظيمات الإرهابية في سورية، خصوصاً وأن كلفة الحرب الدولية على هذه التنظيمات ستكون أكثر في حال رحيل الأسد عن المشهد السياسي.
حتى الآن ما يزال الملف السوري أسيراً لفكرة إدارة النزاع، ما لم يتم علاج هذا الملف من الجذور، ذلك أن وضع المسكنات على الجرح لا تغني عن مسألة العلاج، وما يجري إلى اللحظة هو اتفاق دولي على مسكنات للنزاع مثل تخفيف الحصار وأمر المساعدات... إلخ.
ويبقى القول إن الرهان على الملف السوري بيد واشنطن وموسكو، فإذا ترجمت الخطوات الملموسة التي تحدث عنها كيري على أرض الواقع، بما فيها توسيع التعاون الدولي ضد الإرهاب يشمل روسيا، فإن مثل هذه المؤشرات تبعث الأمل بأن أمر النزاع السوري بات قريباً من الحل.
ثم إن الحديث عن حل جدي في سورية مرهون أيضاً بصمود الجيش تحديداً في نزاعه المفتوح مع أكثر من طرف معارض، فطالما وأنه ما يزال يتمتع بالصحة والعافية فإن الحل السياسي أبعد ما يكون، إلى أن تستنزف قوته ولا يعد معها قادراً على النهوض.
إن إطالة النزاع بهذا الشكل تعني أول ما تعنيه إضعاف سورية الشعب والجيش والدولة وإخراجها من حسبة الدول القوية، كما حصل مع العراق من تمزق وفوضى أهلية، ذلك أن الهدف الأساس من استهداف سورية هو تجريدها من عوامل القوة وإخضاعها في محيط إقليمي مشحون بالقلاقل والفوضى.