ما الذي يقف وراء نهضة المغرب الجديدة؟

د. عبد المجيد سويلم
حجم الخط

تمرُّ هذه الأيام ذكرى جلوس العاهل المغربي، جلالة الملك محمد السادس على العرش في المغرب الشقيق.
اعتاد أهل المغرب الاحتفال بهذه الأعياد على المستويات الرسمية والوطنية والشعبية في شيء فريد في الواقع العربي وهو حب المغاربة لملوكهم والاحتفاء الحقيقي بهم.
كتبت من على صفحات «الأيام» أكثر من مرّة أن الهُويّة الوطنية المغربية هُويّة راسخة ومتجذرة، وأن لدى أهلنا هناك وجدانا وطنيا جامعا وكلّيا تعيش في ظلاله كل الهُويّات الفرعية أو المتفرّعة، كما أن لدى الأشقاء في المغرب إجماعات وطنية راسخة وصلبة ومن بين هذه الإجماعات حُبّ المغاربة لفلسطين، إضافةً طبعاً إلى حبهم لملوكهم وتمسكهم بوحدة ترابهم الوطني.
ومع أن هذه الإجماعات ليست وليدة المرحلة الحالية، بل هي تراكم موروث ثقافي وطني طويل، إلاّ أن المغاربة يشعرون أن ثمة نهضة مغربية كبيرة دبّت في الحياة المغربية على مدى يزيد على خمس عشرة سنة، وبدأت نتائجها الأولية تظهر قوية في المشهد المغربي في كل المجالات والأوجه.
بدأت بذور هذه النهضة الجديدة مع السنوات الأولى لعهد الملك محمد السادس الذي أبدى رغبة قوية للنهوض والاستنهاض الوطني بعزيمة لا تعرف التردد وبإرادة الإقدام على مواجهة التحديات.
يمكن القول إن هذه النهضة الجديدة تتجلّى في المحاور الرئيسية التالية:
المحور الأول، تأمين أعلى درجة من الاستقرار السياسي. بهذا الصدد لا يستطيع أحد كائناً من كان أن يُنكر فرادة التجربة المغربية.
هذه الفرادة تعود إلى نجاحها، وهذا النجاح يعود إلى فرادتها، ذلك أن المغرب هو البلد العربي الوحيد الذي اختار طريق التحالف والائتلاف الوطني مع القوى الإسلامية طوعاً، واختار الشراكة الوطنية عن طيب خاطر، وعن اختيارٍ واعٍ وإيمانٍ راسخٍ بالأهمية الاستراتيجية لهذا النهج.
فقد كانت الإرادة الوطنية الحرّة والمستقلة هي التي أوصلت المكوّنات السياسية في المغرب إلى أهمية هذه الشراكة، خصوصاً وأن العالم العربي والإسلامي تعرض لهزّات عنيفة في ضوء دخوله في مرحلة «الربيع العربي».
استطاع المغرب أن يجتاز امتحان ما يسمى بالربيع العربي بدرجة التفوق والامتياز وذلك بترسيخ الشراكة الوطنية التي لا تلغي الآخر وتترك له الهوامش الوطنية والديمقراطية الكافية للحفاظ على نهجه المستقل من جهة والحفاظ على مركزية ومحورية الشراكة الوطنية من جهةٍ أُخرى، والحالة المغربية هي الحالة العربية الوحيدة التي لا تجد أطراف الشراكة فيها قيداً على الاستقلالية ولا تجد في الاستقلالية قيداً على الشراكة.
وهنا أزعم أن نجاح هذه التجربة بالذات يعتبر بكل المقاييس النموذج الأول لتحمُّل واقتسام الأعباء والمسؤوليات بدلاً من نظام اقتسام الحصص والمنافع والامتيازات.
أما المحور الثاني، فهو محور التنمية. غني عن القول إن الاستقرار السياسي هو مفتاح كل تنمية كما أن كل تنمية ناجحة تؤدي حتماً وبالضرورة إلى المزيد من هذا الاستقرار.
الجدير ذكره هنا هو أن المغرب الجديد يفكر اقتصادياً بالبعد الاجتماعي ويفكر اجتماعياً بالبعد الاقتصادي.
فمن جهة لدى المغرب مشاريع وطنية كبرى (مشاريع استراتيجية) تعتبر بمقاييس الدول النامية، وكذلك بمقاييس الدول المتوسطة التطور هي مرحلة ضرورية وبمثابة بنية أساسية للإقلاع الاقتصادي نحو مصاف الدول الصاعدة (والتي يتراوح عددها ما بين 20 - 30 دولة في العالم، أما من جهة أخرى فإن المغرب لديه آلاف المبادرات الاقتصادية الصناعية والزراعية والسياحية والخدمية التي تدعم نجاح المشاريع الاستراتيجية من جانب وترفع مستوى حياة المغاربة من جانب آخر.
في هذا الإطار نجحت الدولة المغربية بإبرام عهد جديد وعقد جديد للشراكة بين الحكومة (الحكومات) والقطاع الخاص، وقد أشرف الملك محمد السادس شخصياً على الالتزامات المتبادلة بين القطاعين لهذه الشراكة الاستراتيجية المستدامة، ويمكن القول هنا إن الدولة المغربية أقرّت عقداً اقتصادياً في المغرب تحوّلت بموجبه هذه الشراكة إلى سياسة وطنية ثابتة ومفتاحية بمفهوم التنمية الوطنية.
وفي هذا الإطار أطلقت مبادرات وطنية كبرى مثل الوادي الأخضر، والإقلاع الصناعي، وتنمية المنطقة الشمالية، ثم تنمية الصحراء. وتم اشتراك واسع وشراكة شاملة ما بين الجذب الاستثماري الخارجي والرأسمال الوطني، وكذلك المساهمة الفاعلة من الدولة، إضافةً إلى عشرات الصناديق ذات الطابع التعاوني والإنمائي المتوسط والصغير.
الذي يزور المغرب يلحظ التقدم الهائل في مشاريع التنمية الزراعية، حيث تضاعف الإنتاج الزراعي وزادت حصة القطاع الزراعي من الناتج المحلي الإجمالي بمعدلات أعلى من المعدلات العالمية، كما تم وضع كل الخطط والبرامج للإقلاع الصناعي بما فيها الصناعات التي تسمى عالمية مثل صناعات السيارات والبتروكيميائية والدواء والصناعات التكنولوجية، وكذلك الصناعات التكميلية والغذائية في مختلف المجالات.
أما البنية التحتية من طرق وسكك حديد ومطارات وموانئ، فالمغرب يعيش ورشة وطنية عملاقة لتحويل هذه البنية إلى منطلق للمنافسة الدولية وتربّع المغرب على مرتبة متقدمة من البلدان الصاعدة اقتصادياً.
يكفي بهذا الصدد أن نشير إلى القطار الفائق السرعة الذي يربط شمال المغرب بوسطه والمشروع الأورومتوسطي والذي ساهم في تنمية الشمال المغربي وحوّل الميناء المتوسطي إلى مركز خدمي كبير، كما يكفي بهذا الصدد الإشارة إلى الموارد المالية الضخمة التي رصدت لمنطقة الصحراء المغربية والتي فاقت في السنوات الأخيرة أكثر من 14 مليار درهم (أكثر من مليار ونصف المليار دولار)، إضافة إلى أكبر مشروع للطاقة الشمسية في العالم والذي أعلن عنه في الأسابيع الماضية. كما يجري الإعداد لإطلاق مشاريع عملاقة أخرى على مستوى النقل البحري وفي المجال السياحي.
المحور الثالث، وهو محور الإصلاح الديني، وهو محور خاص وهام ونموذجي بكل المقاييس.
في المغرب ثورة ضد التطرف والتزمُّت والتشدُّد، والتوجّه بكل عزم وإرادة نحو قيم التسامح والوسطية والإخاء والابتعاد عن استخدام وتوظيف الدين في الصراعات السياسية والنأي به عن الصراع الأيديولوجي.
في المغرب يعاد النظر في الخطاب الديني بما يحمي النسيج الوطني، وبما يعزز ثقافة التنوع والاختلاف والحق في الاختلاف على قاعدة دستورية وديمقراطية متسامحة.
في المغرب المسجد ليس مكاناً للصراع السياسي ولا للتأليب الحزبي وإنما للدعوة إلى الرشد والخير والهداية.
وقد تحول المغرب اليوم إلى نموذج يُعوّل عليه في الإرساليات الدعوية لكل أنحاء العالم، وخصوصاً في أوروبا وافريقيا، وقد شكلت في الآونة الأخيرة رابطة العلماء الأفارقة ومقرها المغرب من على هذه القاعدة وعلى أساس قوة هذا النموذج.
هذه بعض ملامح النهضة المغربية الجديدة ليس إلاّ.