من ناصر و طوغاى إلى السيسى وبوتسالى

thumbgen (4)
حجم الخط
 

تاريخ العلاقات المصرية التركية تاريخ بالغ التعقيد. تتداخل فى وعينا صورة التركى العثمانلى الذى حكمنا طويلا وعانينا من حكمه كثيرا؛ وتزاحمها لدى بعضنا صورة الخليفة العثمانى رأس الخلافة العثمانية الإسلامية التى دقت جيوشها أبواب أوروبا؛ وتحتفظ ذاكرتنا أيضا برأس الأسرة العلوية الذى يراه البعض مؤسسا لمصر الحديثة، فى حين يراه البعض فى النهاية حاكما أجنبيا لم يتخلص من جذوره التركية.

وتحل هذا الشهر ذكرى ثورة يوليو 1952وقائدها عبدالناصر؛ ويشهد هذا الشهر أيضا عام 2016 تقلصات شديدة تنتاب الجمهورية التركية؛ وتتناقل أجهزة الإعلام تصريحات منسوبة للرئيس التركى ومدير المخابرات التركية تتحدث عن عظمة التاريخ العثماني؛ وتكرر مآخذهم على مصر وما جرى ويجرى فيها. ولا يستطيع المرء أن يتحاشى العودة لتاريخ العلاقة بين ثورة يوليو والجمهورية التركية؛ وتقفز إلى الذاكرة واقعة حدثت قبيل مضى عام واحد على ثورة يوليو 1952.

لقد ردد الإعلام المصرى صبيحة تولى جمال عبد الناصر رئاسة الجمهورية أنه أول رئيس مصري، رغم أن محمد على قد استقل عمليا بمصر وإن ظلت تربطه رابطة ما بالخليفة العثمانى حتى تم إعلان مصر رسميا دولة مستقلة عام 1922 حين استقلت عن بريطانيا التى احتلتها عام 1882؛ والسؤال هو: من استمر فى حكم مصر المستقلة من 1922 حتى 1952؟ لعل هتافات المصريين المرحبين بثورة يوليو كانت تعبر عن اعتبارهم الأسرة العلوية الحاكمة من الأتراك وتطالب الملك فاروق بالعودة إلى أنقرة.

لست من أهل الاختصاص فى علم التاريخ؛ ولكن القول إن عبدالناصر هو أول حاكم مصرى يحكم المصريين - وهو قول صحيح تماما - أمر يجد سندا له فى تصرف غريب للسفير التركى فى مصر آنذاك. لقد انتهى حكم الأسرة العلوية رسميا فى 18 يونيو 1953، و أصبح «البكباشى عبدالناصر» نائبا لرئيس الوزراء، و فى مساء 2 يناير بمناسبة افتتاح وزارة الإرشاد لموسم دار الأوبرا، دخل البكباشى جمال عبدالناصر فصافح سفير الهند، ثم أبصر السيد فؤاد طوغاى السفير التركى فى أحد أركان الغرفة فحياه، ولكن السيد طوغاى بدلا من أن يرد التحية قال للبكباشى جمال عبدالناصر: إن تصرفاتكم ليست تصرفات جنتلمان ولن تكون هناك أى صداقة بيننا وبينكم». وتم بناء على ذلك قرار الحكومة المصرية بطرد السفير التركى من مصر ورفع الحصانة الدبلوماسية عنه وطرده من مصر وإبلاغ هذا القرار للحكومة التركية، وذلك «بعد قيام السفير التركى بعمل حملات مستمرة على سياسة قادة الثورة وتوجيهه ألفاظا نابية لجمال عبد الناصر». وأضاف بيان مجلس الوزراء وقتها أن السفير التركى يجهل أصول الكياسة والأدب.

لقد انتهى حكم المصريين لأنفسهم نحو عام 341 قبل ميلاد السيد المسيح وأصبحت مصر منذ ذلك التاريخ الموغل فى القدم جزءا من كيانات أكبر. توالى على حكمها الرومان والبطالمة وكانت مذاهبهم الدينية تختلف عن المسيحية الأرثوذكسية التى يعتنقها غالبية المصريين آنذاك، و كان طبيعيا أن يظل حاكم مصر من غير أهلها، حتى بعد أن جاء الفتح العربى عام 641 وأصبح غالبية المصريين مسلمين بل ويتحدثون العربية؛ واستمر الحكم الإسلامى للمصريين فى ظل دولة الخلافة الراشدة ثم الطولونيين فالعباسيين فالإخشيديين فالفاطميين فالأيوبيين فالأتراك العثمانيين، وتنقلت مراكز اتخاذ القرار بالنسبة لشئون المصريين من مكة إلى دمشق إلى بغداد إلى الآستانة، ظل الحكام المسلمين يقومون بتعيين الولاة على الأقطار الخاضعة لحكمهم، وكان أولئك الولاة دائما من أبناء دولة المركز؛ وحتى حين انتقل المركز إلى القاهرة فى العصر الفاطمى لم يخطر ببال أحد من سلاطين المسلمين طيلة تلك القرون تولية مصرى حكم مصر. ذلك رغم كل ما نعرفه يقينا من أن الإسلام يجب ما قبله، وأن المسلمين كأسنان المشط، وأنه لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوي، وعرفنا كيف عوقب ابن الأكرمين لأنه ضرب واحدا من المصريين. عرفنا كل ذلك وأضعافه ومع ذلك ظل حكم المصريين حتى بعد إسلامهم فى أيدى غيرهم إلى أن استولى ناصر على السلطة بالقوة ليصبح أول حاكم مصرى يحكم المصريين؛ وإذا به يفاجأ بتلك المعاملة الفظة من السفير التركى تحديدا. وفى 23 نوفمبر 2013 قامت حكومة الرئيس السيسى بطرد السفير التركى بالقاهرة حسين عونى بوتسالى واستدعاء السفير المصرى من هناك وتخفيض مستوى العلاقات الدبلوماسية بين البلدين إلى درجة قائم بالأعمال. وكان ذلك على إثر تصريحات قال بها الرئيس التركى أردوغان جاء فيها «أحيى موقف مرسى أمام المحكمة، وأحترمه، ولا أحترم مطلقا أولئك الذين قدموه للمحاكمة».

ومنذ أيام قليلة عقد القائم بالأعمال التركى بالقاهرة على رضا جوناى مؤتمرا صحفيا للمحررين الدبلوماسيين عرض خلاله ماحدث فى  يوليو الحالى من محاولة عسكرية للاستيلاء على السلطة مجددا لوم مصر على موقفها حيث لم تبادر بإدانة تلك المحاولة.

ألا يحمل ذلك التاريخ شبهة أن الأمر كله لا علاقة له بالإسلام ولا بما إذا كانت تركيا علمانية أتاتوركية أو عثمانية إسلامية؟ وأنه لا يعدو أن يكون صراعا قويا بين دول تسعى للتوسع والاحتلال والسيطرة متسربلة بالرداء الأكثر جاذبية و هو رداء الدين.

عن الاهرام