تونس: أزمة حكومة.. أم أزمة حكم؟!

هاني حبيب
حجم الخط

تردّدت كثيراً قبل أن أضع وصفاً لما جرى في الأيام الأخيرة، في الشقيقة تونس العزيزة، التي يعتبرها معظم الفلسطينيين وطنهم الثاني، أشير هنا إلى تصويت البرلمان التونسي على حجب الثقة عن حكومة الحبيب الصيد، ذلك أن هذا التصويت جاء في اطار تقاليد ديمقراطية ودستورية من ناحية، إلاّ أن مقدمات هذا التصويت واستهدافاته، ظهرت وكأنها عملية ذات طبيعة «انقلابية» استندت إلى التقاليد الديمقراطية، وهذا التصويت هو الأول من نوعه في تاريخ الجمهورية التونسية، فهي المرة الأولى التي تطرح الحكومة على البرلمان كي يتم تجديد الثقة بها أو حجب الثقة عنها، إذ إن رئيس الحكومة عادةً ما يستقيل بناءً على طلب وضغوط الرئيس من دون حاجة إلى أداة حجب الثقة من قبل البرلمان، وتوجه رئيس الحكومة إلى البرلمان للفصل في الخلاف مع رئيس الدولة، دون الانصياع إلى الضغوط الهائلة كي يقدم استقالته يعتبر تجربة فريدة في ديمقراطية هشّة وفي إطار دستور يخلط بين النظام الرئاسي والنظام البرلماني، توجه «الصيد» إلى البرلمان لحسم الخلاف مع معرفته مسبقاً بنتائج التصويت، يجعل من هذا الأمر مناسبة تاريخية بامتياز!
وكان الصيد قد ترأس حكومته قبل عام ونصف العام اثر الانتخابات التشريعية نهاية العام 2014، وتوافق الحزبين الكبيرين عليه، «نداء تونس» و»النهضة» وباقي الأحزاب الممثلة في البرلمان، على أنه وخلال الأشهر الماضية، أخذت أصوات حزبية مختلفة تشير إلى إخفاق الصيد وحكومته في وضع حد للأزمات المتلاحقة التي ألمّت بالبلاد على المستويات الأمنية والسياحية والتراجع الاقتصادي، وبدأت الأحزاب الكبيرة، خاصة «نداء تونس» و»النهضة»، بالدعوة إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، ما يعني استقالة حكومة الصيد لإفساح المجال أمام تشكيل الحكومة البديلة، غير أن عدداً واسعاً من المراقبين ومن النخب السياسية، يرى أن هذه الدعوة ما هي إلاّ محاولة من قبل هذه الأحزاب للتغطية على إخفاقاتها، كما أشار بعض التحليلات إلى أن الرئيس السبسي هو الذي يتحمّل مسؤولية أي إخفاق، لكنه من خلال الضغط على «الصيد» للاستقالة، وكأنه لم يوحِ بأن الأخير هو وحده من يتحمّل مسؤولية هذا الإخفاق، في حين رأى البعض، أن حكومة الصيد ورثت أوضاعاً أمنية واقتصادية بالغة الصعوبة، وان عاماً ونصف العام غير كافية للحكم على مدى نجاح أو اخفاق حكومته، بينما أن «الاستمرار» في هذه الحالة، هو ضرورة من أجل تراكم النجاحات وتراجع الاخفاقات، وعاماً ونصف العام في ظل الوضع المتأزم، مدة قصيرة لا يمكن لها أن تكفي لتقييم تجربة الحكومة.
واتضحت صورة الخلاف بين السبسي والصيد، لدى إعلان الأول عن الدعوة لحكومة وحدة وطنية من دون استشارة أو نقاش الثاني، وظهر أن الأمر ينطوي على توافقات في الخفاء بين «نداء تونس» و»النهضة»، لأسباب لم تتضح بعد، إلاّ أن هناك مؤشرات دلّت على أن أسباباً شخصية وراء هذا التوافق لدفع الصيد للاستقالة، التي ستعتبر «إقالة» من ناحية عملية.
وعاد البعض للتذكير بالخلافات الحادة في أوساط حزب «نداء تونس»، وما قيل من أن السبسي يهيئ ابنه حافظ قايد السبسي، للحكم، بينما يرى هؤلاء أن موقف «النهضة» يعود بدرجة أساسية إلى محاولة ترميم وضعه الحزبي بعد عملية المراجعة الأخيرة، إلاّ أن الأسباب الحقيقية وراء هذا التوافق لإزاحة «الصيد» ظهرت في الواقع ـ حسبما نرى ـ بعد معركة التصويت على الثقة بحكومته، إذ تبين أن هذا الرجل لديه حنكة سياسية وشخصية قوية، لم يكن من السهل عليه تلقي الأوامر والتعليمات بسهولة، رجل يتحدى ويتصدى في اطار القانون والدستور، والأهم، أنه مهيأ تماماً لرئاسة البلاد في المستقبل القريب على ضوء كل هذه الصفات، مصدر قوته، هي مصدر ضعفه، إذ إن الخشية من ترشيح نفسه لرئاسة البلاد في المستقبل، مكّنت «خصومه» من إزاحته، إلاّ أن الأمر ليس بهذه السهولة، ذلك أن أداءه الدستوري الجيد، وخطابه أمام البرلمان، خطاب التصويت، كان كافياً لكي تجتمع المؤشرات على أن الإخفاق، كان إخفاق الأحزاب وقياداتها، فهو يقود حكومة منها كما منحت الثقة من قبلها.
ورغم أن إزاحة «الصيد» قد تمت وفقاً للتقاليد الديمقراطية والحزبية، إلاّ أن الضغوط التي مورست عليه، للانكفاء دون ضجيج والعودة إلى الخلف بهدوء، كل ذلك يجعل من هذه «الإطاحة» عملاً انقلابياً يتلبس بالشكل الديمقراطي، وهو أمر مشروع في إطار اللعبة السياسية ـ الديمقراطية بشكل عام.
الجديد بهذا الشأن، أن الصيد كان يعلم، كما يعلم الجميع أن التصويت لن يكون لصالح استمراره، ذلك أن هناك إعلانات واضحة من قبل الأحزاب الرئيسة بالبرلمان للتصويت بحجب الثقة، مع ذلك كله، توجه الصيد إلى البرلمان، صوت الشعب، لكي يجابه منتقديه ويرد على اتهاماتهم، من خلال خطاب يؤهله في المستقبل لكي يصبح خطاباً لرئيس البلاد!!