بمتابعة ما يؤكد عليه الخبراء الاستراتيجيون فإن معركة حلب التي تدور بشراسة كبيرة هذه الأيام ربما ستكون المعركة المفصل والجولة الفاصلة.
وسواء كان الحسم لصالح المجموعات المسلحة أو لصالح الجيش السوري فإن هذه المعركة على ما يبدو ستؤدي إلى تغيير وجه الصراع وتقرير مصيره النهائي.
التغير الأكبر في سير هذه المعارك هو في سيطرة وإحكام الطوق على مدينة حلب في الأيام الماضية، ومحاولات المعارضة المسلحة فك هذا الطوق، وآخر هذه المحاولات كانت معركة الراموسة التي فشلت على ما يبدو حتى الآن في فك الحصار.
كان الجيش السوري بعد التقدم الكبير في حلب قد خسر مناطق هامة في جدار الطوق السوري ثم عاد واستعادها، وتحاول المعارضة هذه الأيام إعادة السيطرة على هذه المناطق باستخدام أسلحة متطورة وصلت إلى المجموعات المسلحة من الولايات المتحدة ومن بعض الدول الإقليمية، وباستخدام مئات العمليات المباغتة والانتحارية بأعداد كبيرة جداً من المسلحين، وهو الأمر الذي يشير إلى أن معركة حلب هي معركة الفرصة الأخيرة لهذه الجماعات.
إذا فشلت كل المحاولات واستطاع الجيش السوري «تصفية» الهجوم القائم في هذه الأثناء فإن المعارضة المسلحة ستدحر إلى خارج محافظة حلب الكبيرة، وربما أنها ستتشتت على شكل مجموعات صغيرة متناثرة، وهو الأمر الذي يعني خروجها من السياق الاستراتيجي لهذه المعركة المفصلية.
أما إذا تمكنت هذه المجموعات من فك الطوق عن حلب واستعادة التواصل مع مجموعاتها المحاصرة شرق حلب وجنوبها فإن الجيش السوري سيواجه مشكلات عسكرية كبيرة، ما سيعيد مسألة الحسم العسكري إلى مربعات كان المفترض أن تكون قد تراجعت منذ أمدٍ بعيد.
الذي سارع وسرّع من هذه المعركة هو فشل محاولة الانقلاب في تركيا.
بعد هذا الفشل فهم الغرب وبعض البلدان العربية الإقليمية أن تركيا في ضوء توتّر علاقاتها مع الغرب بعد فشل المحاولة ربما ستنكفئ إلى الداخل التركي، وقد تصل الأمور من الانكفاء إلى درجة قد تحدث تغيراً هائلاً يحدث زلزالاً في موازين القوى على الأرض.
إزاء هذا يبدو أن الغرب نفسه بدأ بالتحضير لهذه المعركة على تمهلٍ وتخطيط كبيرين.
فمن ناحية ومن أجل أن يتم تجنُّب «الإحراج» الذي ينطوي على المساعدة المبطّنة لجبهة النصرة فقد تم الإيعاز إلى هذه «الجبهة» بفك علاقاتها مع التنظيم الدولي لـ «القاعدة»، وليس الإعلان الأخير عن هذا «الانفصال» سوى التمهيد لما ستكون عليه الأمور لاحقاً.
الولايات المتحدة والغرب لم يعودوا قادرين على المزيد من التلكؤ في محاربة «داعش»، كما أن الفصائل المسلحة في حلب ومحافظتها لم تعد قادرة على الصمود، وهي بحاجة ماسة إلى إسناد كبير قبل أن تتمكن القوات السورية النظامية من حسم المعركة، ولأنّ جبهة النصرة هي امتداد طبيعي وتنظيمي لـ «القاعدة» فان المعركة على حلب دون اسناد كبير وشرعي من قبل الغرب لجبهة النصرة وتحديداً ستبدو فاشلة وخاسرة، في ضوء ضعف وهشاشة باقي الفصائل المسلحة هناك، وهو الأمر الذي على ما يبدو «أجبر» «النصرة» على هذه الاستدارة الإعلانية والتي هي على أرض الواقع خطوة دون تأثير ودون نتائج ودون أي تغير يذكر على هذا الواقع.
إذن، معركة حلب في حالة حسمها لصالح الجيش السوري ستكون المدخل المؤكد لهروب المسلحين من كل الاتجاهات إلى مناطق الرقة ودير الزور والحسكة وإعادة التحالف مع «داعش» ما سيؤدي حتماً إلى خسارة الغرب للمعركة سلفاً، وذلك لأن الأدوات الغريبة لهذه المعارك والحروب تكون قد «انتقلت» إلى مواقع جديدة يصعب على الغرب الاستمرار في العمل معها.
أما إذا تمكنت الفصائل المسلحة من تعطيل خطة الجيش السوري لتحرير منطقة حلب وريفها فإن الغرب سيتمترس وراء هذه الفصائل المسلحة لاستعادة ما يمكن استعادته من زمام المبادرة على الساحة السورية، بعد أن فقد الغرب هذه المبادرة وأصبح موقفه الحقيقي اللهاث وراء الاتفاقات مع روسيا بحثاً عن «الحل» السياسي بأقل الخسائر.
يبقى المفصل التركي هاماً على كل حال. فإذا بقي التوتر قائماً بين الغرب وتركيا فإن تركيا ستلوّح بالدور التركي في سورية «لإجبار» الغرب على القبول بكل ما تقوم به تركيا ضد فتح الله غولن وضدّ معارضي السياسة الأردوغانية، كما ستلوح تركيا بالانسحاب الكامل أو التدريجي من الملف السوري والتحالف مع روسيا وإيران عند الضرورة، وهو الأمر الذي سيحسم معركة الغرب في سورية وعليها لصالح النظام بسرعة قياسية بإسناد غير مسبوق من الطيران الروسي.
معركة حلب ليست مجرّد جولة عسكرية كبيرة وإنما هي في الواقع «أم المعارك» السورية، وعليها سيتحدد الكثير من معالم الخارطة السورية وربما الكثير من تضاريسها، أيضاً.
في مطلق الأحوال المعارضة المسلحة في مأزقٍ كبير وروسيا تعرف هذا الواقع وتقوم بدورٍ حاسم في معركة حلب لأنها تعرف (أي روسيا) أن هذه المعركة ستؤدي إلى حلٍّ سياسي كان الغرب يتمنّع الإقدام عليه، وإلى تركيز المعركة على المنظمات الإرهابية دون مواربة ودون تغطية ودون دعم غربي مبطّن لها.
معركة حلب هي معركة الكشف عن حقيقة ما تتعرض له سورية من محاولات تقسيمها وتهشيمها، ومعركة حلب هي معركة استعادة سورية للكثير مما فقدته من تماسك وتوحُّد في وجه هذه المحاولات.