لعل واحدة من أهم صفات الشعب الفلسطيني، كونه شعباً يتمتع بالابتكار والتجديد، كونه شعباً حياً لا يستكين ولا يهدأ، بل هو حيوي للغاية، لا يستسلم ولا يصيبه اليأس، حتى وهو يواجه أهوالاً أعجزت شعوباً أخرى، أكثر منه عدداً وعدة، وأفضل منه ظروفاً وحظاً، ولعل قدرة الشعب الفلسطيني، بكل مكوناته الاجتماعية والسياسية، على التكامل وتبادل الأدوار، هي التي تمكنه من الاستمرار في مقارعة أسوأ احتلال، ظهر في العصر الحديث، وأخطر مشروع استعماري، ظهر مع ظهور نتائج الحرب العالمية الأولى، وتكرس مع انتهاء الثانية، وبقي واستمر خلال وما بعد الحرب الباردة.
فبعد أن قاوم الشعب الفلسطيني بشكل عائلي وجهوي، وبمقدرات محلية بسيطة الاحتلال البريطاني وجماعات الاغتصاب اليهودي / الإسرائيلية، خلال ثلاثة عقود ما بين الحربين الكونيتين، الأولى والثانية، وبعد أن انتظر المخلّص العربي، انطلق بالمقاومة الوطنية، ذات الفكر القومي والتحرري / الاشتراكي، المتأثرة بما كان عليه حال القوى المناوئة للإمبريالية العالمية، ثم شق طريق المقاومة بالتوجهات الإسلامية، بعد ظهور الإسلام السياسي المناوئ للغرب، والإسلام الجهادي، وبعد أن اندلعت المقاومة ضمن حاضنة الخارج والشتات، انتقلت الدفة للداخل، مع الانتفاضة الأولى.
وقد حسن التعدد السياسي، منذ نحو خمسة عقود، وعلى عكس كثير من حركات التحرر، الاداء السياسي وحتى الخصام الداخلي إلى حد ما، والآن فإن بعداً جديداً يدخل على خط الكفاح الوطني، ممثلاً بالحراك الشعبي، وبمشاركة فعلية للقطاعات المهنية وللشرائح الاجتماعية، خاصة الشباب، وحين تعجز النخبة، ممثلة بفصائل العمل الوطني والإسلامي، تجد شباناً مستقلين تنظيمياً، يطلقون شرارة الانتفاضة، وحدث هذا منذ نحو عام، وكلنا يذكر كيف اندلعت الانتفاضة الأولى، حين ظهر أن المقاومة المسلحة بالخارج، قد خبت أو وهنت، بعد الخروج من بيروت، فجاء الرد عام 87 من داخل الوطن المحتل.
بعد أن بدا، أن انتفاضة الشباب الفلسطيني التي اندلعت مطلع شهر تشرين أول من العام الماضي 2015 قد خبت، جاء التحرك في صفوف الحركة الأسيرة، التي طالما مثلت أولا الكتيبة المتقدمة في خندق الكفاح الوطني، ثم ثانياً، بؤرة الإجماع الوطني وعنوان الوحدة الوطنية.
وبعد أن حافظت الحركة الأسيرة على منسوب وخط مقاوم ثابت لم ينقطع، وإن كان لم ينفتح على أوسع الأبواب _ نقصد بحرب أو معركة كسر عظم مع السجان المحتل _ إلا أنها مع كل معركة يخوضها معتقل / مقاوم، بأمعائه الخالية، وبإضرابه عن الطعام، حتى تحقيق مطالبه، خاصة أولئك المعتقلين إدارياً، ومع كل انتصار يحققه المقاوم / المعتقل، كان يبث روحا جديدة في أوصال الكل الفلسطيني، وهكذا حتى مع التتابع في معارك الإضراب عن الطعام، كان يقدم الشعب الفلسطيني مثلاً متجدداً على حيويته كشعب، وعلى استمراره على طريق الكفاح الوطني، دون تعب أو ملل أو كلل.
فبعد أن سجل المعتقل الإداري خضر عدنان أسطورة بإضرابه عن الطعام مرات عديدة، كان آخرها، لمدة 56 يوماً متواصلة في أيار عام 2015، وذلك بانتصاره على السجان، جاء محمد القيق ليسجل رقما قياسيا، بإضرابه لمدة 93 يوما أنهاه بعد أن اجبر السجان على الاستجابة لمطالبه والتعهد بالإفراج عنه، وذلك في شباط من العام الحالي.
ولعل في كون المناضل محمد القيق مراسلا لقناة المجد السعودية، ما يضفي بعدا آخر على طبيعة الكفاح الوطني، الذي لم يكن يوماً مقتصراً على نخبة المتفرغين أو المنتسبين للفصائل أو الجماعات الحزبية / السياسية .
الآن جاء الدور على الأسير بلال كايد، المضرب عن الطعام منذ أكثر من خمسين يوما، حيث أن أهم ما في الأمر هو أن إضرابه عن الطعام، فتح الباب واسعاً لاندلاع مواجهة واسعة بين المعتقلين والسجان، وقد بدأت معركة المناضل كايد بعد انتهاء مدة محكوميته العسكرية وكانت 15 عاماً، قضاها داخل السجون الإسرائيلية، ليفاجأ بقرار احتلالي تعسفي، بتمديد اعتقاله إدارياً ستة أشهر أخرى !
48 أسيرا / معتقلا في سجون الاحتلال العسكري الإسرائيلي، أعلنوا منذ أسبوعين إضرابهم تضامنا مع كايد والشقيقين محمد ومحمود بلبول، ثم 150 معتقلا في سجن نفحة و135 في سجن أيشل، أعلنوا الإضراب عن الطعام، منذ أول أمس، وذلك دعما وإسنادا للمعتقل بلال كايد.
رغم أن معارك الإضراب عن الطعام، ما زالت تقتصر على المعتقلين الإداريين الذين يبلغ عددهم 700 معتقل، أي نحو 10% من سبعة آلاف أسير فلسطيني، إلا أن تزايد عدد المنضمين للمعركة، يفتح الباب لأن تتسع وتشمل كل المعتقلين والأسرى.
من الواضح أن إقدام قوات الاحتلال على اعتقال المئات من المناضلين والشباب على خلفية هبة القدس، قد حرّك المياه التي ربما تكون قد ركدت إلى حين، في الحركة الأسيرة، أما أن يأتي هذا الحراك المبارك في وقت تدب فيه الحياة في الأوصال الشعبية على وقع إجراء الانتخابات المحلية، فذلك يعني بأن الشعب الفلسطيني ما زال بخير، وانه يستعد جيداً، لمواجهة جديدة / متواصلة مع الاحتلال الإسرائيلي، لن تنتهي أو تتوقف إلا بإنهاء أسوأ وآخر احتلال قائم على وجه الأرض.