كثيرة هي الموائد المستديرة التي نلبي دعوتها ويكون محورها القضايا الاقتصادية والاجتماعية في الوطن، وحتى الذي يوجه بوصلته صوب السياسة والمفاوضات والبعد الدولي لا يستطيع أن يهرب في موائده المستديرة عن جوهر القضايا الاقتصادية والاجتماعية.
في الغالب كان الحل الأمثل حتى 2005 هو الهروب إلى الأمام من استحقاقات القضايا الاقتصادية والاجتماعية والتمترس خلف البعد النضالي وتحويل السلطة الوطنية إلى دولة، وبالتالي تصبح قضايا العدالة الاجتماعية وحقوق المستهلك وتكافؤ الفرص وحل مشاكل البطالة والفقر هناك أكثر تفهماً.
اليوم باتت هذه القضايا حاضرة بقوة وباتت محور نقاش أساس عندما يحضر الوزراء وعندما يحضر القطاع الخاص وعندما يلتف حول المائدة المستديرة هؤلاء ومعهم خبراء اقتصاديون واجتماعيون وجمعية المستهلك.
بات السؤال الملح أين نقف من مجمل هذه القضايا: وزارات، وقطاع خاص، ومؤسسات أهلية، وجمعية حماية المستهلك. أين تقدمنا إلى الأمام؟ وأين توقفنا عند نقطة بعينها؟ وكيف تنعكس على حياة المواطن اليومية؟
وأنا هنا لست بصدد تقديم تقرير إنجاز في هذه المساحة ولكن في كل لقاء لا بد من الإشارة إلى عناوين برامج تكاد تكون عناوين ثابتة «أجندة السياسات الوطنية»، «شبكة الأمان الاجتماعي التي تضم 120 ألف أسرة»، «النهوض بالتعليم المهني»، «المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر»، «توليد الطاقة والطاقة المتجددة»، «تشجيع المنتجات الفلسطينية وتنمية الصادرات»، «تأهيل وتطوير البينة التحتية»، « قطاع الاسكان».
وينافح القطاع الخاص عن عناوين متكررة ويعيد الكرة عن: «الحوار الاقتصادي بين القطاع الخاص والعام»، «الخروج منهكين من العبء الضريبي»، «قانون الاستثمار»، و»قانون اتحاد المقاولين الفلسطينيين».
أما المشهد الاقتصادي الاجتماعي في الوطن فتشعر وكأنه موجود في جزيرة أخرى منفصلة من حيث: ارتفاع الأسعار وعدم تناسبها مع القدرة الشرائية للمستهلك، عدم تحقيق الحد الأدنى للأجور، ارتفاع أعداد المؤهلين للالتحاق بسوق العمل دون أن يجدوا فرص عمل، ارتفاع نسبة الفقر، عدم كفاءة برامج الأمان الاجتماعي، ارتفاع فوائد ورسوم البنوك الفلسطينية والعاملة في فلسطين عنها في البنوك الإسرائيلية والبنوك الأردنية في المملكة الأردنية الهاشمية، عدم كفاءة برامج إقراض مشاريع الإسكان، خصوصاً في القدس المحتلة، تراجع مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة أسعار السلع الأساسية ذاتها في السوق الفلسطينية والسوق الإسرائيلية حيث تجد أنها في السوق الإسرائيلية منخفضة عنها في الفلسطينية.
في المشهد الاقتصادي الاجتماعي ترتفع وتيرة الشكوى ولكن آليات التعاطي مع الشكاوى غالباً ليست في مستوى الحدث، الأمر الذي يرفع حالة الانطفاء وتنامي الشعور لدى المواطن بأنه سواء عرف حقوقه أو لم يعرفه فالأمر سيان: سواء وضع في صندوق الشكاوى شكواه في هذا البنك أو في شركة الكهرباء أو في مرافق المياه أو في الاتصالات أو شركات استيراد المركبات أو لم يضع، فالأمر بات بالنسبة له واحداً، فالمثال واضح خلال شهر رمضان الماضي وارتفاع أسعار اللحوم الحمراء ولم يتم خفضها شيكلاً واحداً عن السعر المتفق عليه بين الجزارين لغاية كتابة هذه السطور، وقيل ما قيل حول الاستيراد عبر الكوتا والذي لم يغير شيئاً على السعر.
وفي خضم هذا الوضع الاقتصادي، يتفنن البعض بابتكارات متمثلة بسياسة الدفع المسبق للكهرباء والمياه، في الوقت الذي تزداد نسبة الفاقد الفني والمالي في المياه والكهرباء دون حلول خلاقة في هذا الملف، بل يتم الهروب إلى الأمام باتجاه إقرار عدادات المياه مسبقة الدفع، سابقاً على اختبار دور مجلس تنظيم قطاع المياه وإفساح المجال أمامه للعمل، وكذلك الحال بالنسبة لمجلس تنظيم قطاع الطاقة، وضرورة إنشاء هيئة تنظيم الاتصالات الغائبة.
اليوم لم يعد مجدياً إصدار بيان صحافي يؤكد أننا بصدد تفعيل الصادرات عبر مجلس الصادرات الفلسطيني، أو زيادة الاستثمار عبر المدن الصناعيةن التي مللنا الحديث عنها منذ سنوات مضت، أو الحديث عن نقطة ربط الطاقة في محطة الجلمة التي ستحل مشكلة الكهرباء في شمال الضفة الغربية ولكنها مرهونة بتراكم الديون للكهرباء القطرية، أو تكرار الحديث عن دعم مشاريع الإسكان في القدس المحتلة، أو نية القطاع المالي التوجه للقدس المحتلة.
وكذلك الحال بالنسبة لعناوين البرامج والنشاطات التي تقوم عليها مؤسسات القطاع الخاص والمجتمع الأهلي وتظل غير مؤثرة، منذ سنوات ونحن نتحدث عن برنامج متكامل لدعم المنتجات الفلسطينية ذات الجودة والسعر المنافس بحيث لا يظل هذا المشروع موسمياً.
ولا يعقل أن تظل جمعية حماية المستهلك غير قادرة على فرض أجندة وحقوق المستهلك بصورة فاعلة؛ نتيجة لتفاوت أدائها بين محافظة وأخرى، ونتيجة لعدم تمكينها من تحقيق وضع أجندة حماية المستهلك على خطة عمل الوزارات لخمسة أعوام لاحقة، أو إيقاع عقاب قانوني دسم بحق مخالف، أو تمكينها من خلال نشر أسماء المخالفين، أو الانتصار لبرنامجها مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، أو وقف التهريب المتواصل للمحاصيل الزراعية وضرب المزارعين الفلسطينية.
ويغيب عن المشهد الإعلام الاقتصادي القادر على طرح المواضيع وإثارة ملفات تؤثر.
المطلوب عملياً هو أن تنتج تلك الموائد المستديرة وأن تنتج لغة مشتركة بين المستديرين حولها. مطلوب من المؤتمرات الاقتصادية إحداث نقلة نوعية مهمة. مطلوب تفاعل حقيقي مع القضايا الاقتصادية والاجتماعية. مطلوب وضع عنوان «تمكين جمعية حماية المستهلك باعتبارها الممثل للمستهلك الفلسطيني».
غزة و"المعركة النهائية".. إلى أين تسير الأمور؟
14 نوفمبر 2023