أغلب المشاريع والاتفاقات الاقتصادية والتجارية والسياحية التي أدى لقاء الرئيسين الروسي والتركي فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان إلى تنشيطها ليست جديدة، بل سبق وتم التوقيع عليها في زيارات سابقة قبل تفاقم الأزمة السورية، ولكن الجديد هو التفاهمات السياسية والعسكرية الأمنية حول مجمل الأوضاع، أي سوريا والأكراد ومكافحة الإرهاب، ووقف الدعم التركي للمعارضة السورية، وضبط الحدود مع سوريا.
فالرئيس التركي في انقلابه المضاد للانقلاب العسكري في بلاده مصمم على محق جماعة فتح الله غولن، فهما عملياً طرفان يقولان، إنهما يمثلان الإسلام ويتنافسان عليه، فكأنهما انشقا عن بعضهما، والانشقاق عادة لا ينتهي إلا بمحق طرف للآخر؛ لأن كل طرف يقول، إنه يمثل الإسلام الصحيح، وقد ازدادت شكوك الرئيس التركي في الغرب ككل قبل وأثناء وبعد الانقلاب الفاشل، وبات الأمر بالنسبة إليه قضية حياة أو موت، ولهذا يستنفر كل قواه لجلب غولن من الولايات المتحدة؛ لإغلاق ملف المنافسة بينهما نهائياً، ولديه شكوك قوية وربما أدلة على تورط أمريكي سري في المحاولة الانقلابية، من خلال المعلومات التي تلقاها من الخارج أو التحقيقات، إلا أن المهم هو أن الروس أعطوه ما يمكن وصفه بكلمة السر عن الانقلاب؛ حيث أبلغت الاستخبارات الروسية نظيرتها التركية أن هناك تحركات مرتقبة لقطعات عسكرية تركية قبل تحركها بخمس عشرة ساعة، وأثناء ذلك كان الانقلابيون يعرضون خططهم للنزول عسكرياً إلى الشارع على رئيس الأركان التركي الذي اعترض عليها، واستنتج أن الأمر يتعلق بمواجهة الشعب وخوض حرب شوارع بين الجيش وأنصار الحزب الحاكم، لذا رفضها واختار إبلاغ المخابرات التركية التي تأكدت عندئذ أن هناك محاولة انقلابية لتقاطع ذلك مع التحذير الروسي.
فالأتراك متأكدون من وجود موافقة وتغطية أمريكية للانقلاب، لكن الدوائر الأمريكية المتورطة كانت تحبذ القيام بالانقلاب لاحقاً أي عندما يقرر أردوغان اتخاذ خطوات غير دستورية لتجميع الصلاحيات التنفيذية في يد الرئاسة ما يدعم الانقلاب شعبياً ومن كل الأحزاب الأخرى، لكن الذي حدث هو التسريع به لأسباب أمنية وخشية انكشافه مع مرور الوقت. الروس لم يلمحوا أبداً إلى دورهم في إحباط الانقلاب، بل ظلوا صامتين واكتفوا بالتأييد الفوري لأردوغان الذي كان بدأ انقلاباً سياسياً قبل الانقلاب العسكري، واعتذر للروس وأعاد علاقاته مع «تل أبيب» التي يعتبرها همزة وصل جيدة مع الإدارة الأمريكية المقبلة؛ نظراً للهيمنة اليهودية على الحياة السياسية الأمريكية بغض النظر عن الرئيس؛ لأن الكونغرس يبقى تحت النفوذ اليهودي بجمهورييه وديمقراطييه، فالرئيس التركي سئم من التردد الأوروبي الأمريكي تجاهه قبل محاولة الانقلاب، فقد نقضوا كل اتفاقاتهم معه بشأن اللاجئين، ولم يحولوا له الأموال المتفق عليها، وبدأوا باتهامه بدعم الإرهاب الذي يجتاح أوروبا، ورفض الأمريكيون اقتراحاته السابقة لحسم الموقف في سوريا مثل إقامة منطقة عازلة أو دعم تدخل بري عربي غربي تركي من الجبهة الشمالية، وبالتالي بدأ يبحث عن بدائل قبل المحاولة الفاشلة، خاصة أن الاقتصاد التركي تضرر من المقاطعة الروسية للمنتجات التركية، ووقف مشاريع ضخمة بشأن خط الغاز، كما أن رهانه على أن تكون تركيا محطة توزيع للغاز الذي اكتشفه «الإسرائيليون» في البحر المتوسط تضاءل بعد اختيار «إسرائيل» الاتفاق مع عدوه اللدود وهو اليونان، كما أن الكشف الكبير للغاز في المياه المصرية والدلتا جعل الغاز «الإسرائيلي» أقل بريقاً، لذا فالمكاسب من روسيا أمنياً واقتصادياً وسياحياً أكبر مما يتصوره البعض؛ لأن روسيا يمكنها أن تلعب دوراً لإزاحة العبء السوري عن كاهل تركيا، وتتيح له بدعمها السياسي أن يطلق يديه في عملية القضاء على منافسه غولن، دون الخوف من الانتقادات الغربية لإجراءاته والاعتقالات الجماعية.
ثمة تركيز الآن على اتصالات سورية تركية برعاية روسية قد تكلل بلقاء وزاري، وكانت تركيا أعربت عن استعدادها لعقد لقاءات مع السوريين، ورفضت دمشق ذلك مبدئياً، لكن الروس قادرون على الإقناع، وإن لم تكن لقاءات قد عقدت سراً فإنها ستعقد لاحقاً. والسؤال الآن لماذا تترك بعض الدول العربية تركيا ولا تحاول معرفة توجهاتها نحو الدول العربية والقضايا العربية الأخرى؟.
عن الخليج الاماراتية