تحسين يقين "أنا لست لي"

2
حجم الخط

ربما قال ذلك متأملا أو ساخرا أو محللا نفسيا وثقافيا وسياسيا!

 

نصي عن نبوءة محمود درويش التي أزعم أنه فاق فيها ابا الطيب.

 

هل كانت نبوءة الشاعر؟

 

هل كانت نبوءة موسيقي ومغن؟

 

جدلية الساسة والمثقفين لا تنتهي، من ادعاءات إلى احترابات، وإلى المؤسسات حتى تلك التي تحمل اسمه!

 

دوما يفاجئنا محمود درويش بنبوءاته عما بعد الرحيل، وكيف سيكون تعامل الناس معه، شاعرا وشعرا!

 

كان مدركا أنه لن يعد لنفسه، بل للآخرين، فلهم أن يفعلوا ما يعنّ لهم.

 

عندما ينشر شاعر قصيدته، فإنها تصبح ملكا للقراء، هكذا هو رأى نفسه بعد الرحيل!

 

أنا لست لي!

 

- ......................؟

 

- قلته، ألم تقرأ " لهم أن يختصموا حول اسم أسماء الورود، ولي أن أراها، وأشم العبير، وأسمو.

 

- ....................؟

 

- لهم محمودهم، ولنا محمودنا!

 

- !

 

كان من الأروع لو سهرنا جرّاء شعره واختصمنا لندعه ينام كما نام صديقه المتنبي القائل في قصيدته ( واحر قلباه ):

 

أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها و يختصم

 

يغيب ليحضر،

 

ليصير أكثر حضورا،

 

هو محمود درويش أدرك أن خلوده إنما سيأتي من شعره، لا من بنى بيروقراطية، أليس هو القائل في جداريته:

 

"هزمتك يا موت الفنون جميعها

 

هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين، مسلة المصري، مقبرة الفراعنة،

 

النقوش على حجارة معبد هزمتك

 

وانتصرت وأفلت من كمائنك الخلود

 

فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريد"

 

كتب درويش الجدارية بعد عملية جراحية، اقترب فيها من الموت، فتأثر بهذه التجربة فكانت الجدارية. بعدها لم يعد للخوف مكانا، فصار الموت رمزيا، فتعمق لدى الشاعر معنى البقاء بالشعر.

 

لذلك يمكننا قراءة جدلية الاختلاف السياسي والفكري والثقافي والشخصي حول محمود درويش من خلال ثنائية السياسي-الثقافي، في سياقها الفلسطيني والعربي والعالمي، على ضوء وجود حركات التحرر، وما ارتبط فيها من تقريب المسافات بينهما إلى حد التماهي والتبعية، أو ترك مسافة موضوعية لازمة للإبداع الحر، غير المتقيّد بالشعار –الخطاب السياسي الآني والمؤقت.

 

والاختلاف الشخصي له مبرراته وتفسيراته السيكولوجية أيضا، وتلك قصة أخرى، بدأت قبل رحيله، حتى أن درويش أشار لها، حين ذكر ساخرا أنه اكتشف أن عدد طلبة صفه بالآلاف حين كان يتابع ما يذكره الناس من معرفتهم له ومعايشتهم له، وبعد الرحيل ظهرت جليا في ادعاء مثقفين معرفتهم الوثيقة به، وصداقتهم العميقة له، ونفي صداقة الآخرين!

 

 

ومعروف أن محمود درويش كان استثناءا إبداعيا رغم عضويته في أعلى هيئة سياسية هي اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير والتي استقال منها طوعا وزهدا، وهو الذي زهد بأي منصب سياسي بعد قيام السلطة الوطنية في فلسطين.

 

وبعيدا عن تفصيلات التنافس والتجاذب بين الشعراء والكتاب والساسة والإعلاميين الفلسطينيين، والذي لم يعد سرا، فإن زجهم للأمور الثقافية والشخصية وغيرها غير متقبل ولا مستحسن، في ظل الوعي على دور درويش كمثقف ملتزم وحرّ لا يجوز احتكاره. إنه لشعبه وأمته وللإنسانية.

 

في شعره شغل العالم، القراء والنقاد والساسة!

 

اختلفوا واعتركوا فيه وعليه كلما نحى وجوديا وفلسفيا في التعبير عن الصراعات والدنيا.

 

توقع ديمومة التعارك عليه: أنا لست لي!

 

تنبأ محمود درويش بهذا المصر الثقافي له في آخر مقطع من جداريته الخالدة، وربما من خلاله تحدث عن مصائر آخرين أيضا:

 

هذا البحر لي

 

هذا الهواء الرٌطْب لي

 

هذا الرصيف وما عليْهِ

 

من خطاي وسائلي المنويٌ“ لي

 

ومحطٌة الباصِ القديمة لي . ولي

 

شبحي وصاحبه . وآنية النحاس

 

وآية الكرسيٌ ، والمفتاح لي

 

والباب والحرٌاس والأجراس لي

 

لِي حذْوة الفرسِ التي

 

طارت عن الأسوار “ لي

 

ما كان لي . وقصاصة الورقِ التي

 

انتزِعتْ من الإنجيل لي

 

والملْح من أثر الدموع على

 

جدار البيت لي “

 

واسمي ، إن أخطأت لفْظ اسمي

 

بخمسة أحْرفي أفقيٌةِ التكوين لي :

 

ميم / المتيٌم والميتٌم والمتمٌيم ما مضي

 

حاء / الحديقة والحبيبة ، حيرتانِ وحسرتان

 

ميم / المغامِر والمعدٌ المسْتعدٌ لموته

 

الموعود منفيٌا ، مريض المشْتهي

 

واو / الوداع ، الوردة الوسطي ،

 

ولاء للولادة أينما وجدتْ ، ووعْد الوالدين

 

دال / الدليل ، الدرب ، دمعة

 

دارةٍ درستْ ، ودوريٌ يدلٌِلني ويدْميني /

 

وهذا الاسم لي “

 

ولأصدقائي ، أينما كانوا ، ولي

 

جسدي المؤقٌت ، حاضرا أم غائبا “

 

مِتْرانِ من هذا التراب سيكفيان الآن “

 

لي مِتْر و75 سنتمترا “

 

والباقي لِزهْري فوْضويٌ اللونِ ،

 

يشربني علي مهلي ، ولي

 

ما كان لي : أمسي ، وما سيكون لي

 

غدِي البعيد ، وعودة الروح الشريد

 

كأنٌ شيئا لم يكنْ

 

وكأنٌ شيئا لم يكن

 

جرح طفيف في ذراع الحاضر العبثيٌ“

 

والتاريخ يسخر من ضحاياه

 

ومن أبطالِهِ “

 

يلْقي عليهمْ نظرة ويمرٌ “

 

هذا البحر لي

 

هذا الهواء الرٌطْب لي

 

واسمي

 

وإن أخطأت لفظ اسمي علي التابوت

 

لي .

 

أما أنا وقد امتلأت

 

بكلٌ أسباب الر حيل

 

فلست لي .

 

أنا لست لي

 

أنا لست لي “

 

وقد التقط الموسيقار سعيد مراد هذه الفكرة، فلحن الجزء الأخير من قوله" كأن شيئا لم يكن حتى آخر القصيدة، حيث قام الفنان وسام مراد بغنائه.

 

وأذكر أنني كنت شاهدا على ذلك في خريف 2011، بعد رحيل درويش بأربع سنوات حين تم تقديم الأغنية، التي توحي بقراءة سعيد مراد لقراءة محمود درويش المستقبلية في تعامل المثقفين وغيرهم به، وكيف سيدعون الارتباط به.

 

رحل محمود، لكن بقي صوته، وبقيت أشعاره خالدة تمنح قراء العربية وثلاثين لغة أخرى معينا لا ينضب لحب النرجس والكمنجات.

 

عندما أحيا محمود درويش أمسيته الأخيرة في رام الله، مطلا على حيفا والقدس، ألقى قصيدته الخالدة والمشهورة "لاعب النرد" والتي فيها رثا نفسه، كأنه لم يترك لأحد بعده أن يرثيه.

 

هل من رمز هنا؟!

 

لذلك، وفي ظل تشظي الفلسطينيين، ساسة ومقفين، فليس لدينا سوى القول:

 

لهم محمودهم، ولنا محمودنا!

 

هكذا عبّر جبران يوما:

 

"لكم لبناننكم ولي لبناني!"

 

لبنانه النقي الجميل الوادع، ولبنانهم المقطع والمقتتل والمتخاصم والمذهبي...!

 

هل كانت نبوءة الشاعر؟ هل كانت نبوءة فنان؟

 

هي أسئلة الشعر أيضا!

 

هل كانت نبوءة الشاعر؟

 

تلك كانت في "انا لست لي"...

 

تلك التي اختتم بها محمود درويش جداريته..

 

تلك التي كانت يمكن أن تكون الأخيرة...