تضمن العدد الأخير من دورية "فورين أفيرز" الأميركية (عدد تموز (يوليو) - آب (أغسطس) 2016)، مقالا أعده وزير خارجية ألمانيا فرانك-فالتر شتاينماير، الذي احتل مراكز وزارية وسياسية مختلفة أيضاً في الماضي، منها نائب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. وما يقوم به شتاينماير، هو نوع من الطمأنة أو التوضيح. فألمانيا تتجه منذ التسعينيات، كما يقول، لتصبح عملاقا اقتصاديا، ولاعبا مهما عالميا، ولكن مع القليل من الوضوح في السياسة الخارجية وأهدافها.
باتت ألمانيا لاعبا مهما في الحياة الداخلية لدول أوروبية مختلفة، لدرجة خروج مظاهرات في اليونان ضدها، وحدّ أنّ العلاقة مع ألمانيا، ومدى الانصياع لسياساتها الاقتصادية، كانت جزءا أساسيا من الحملة الانتخابية الفرنسية العام 2012. ويمر الوزير الألماني على مثل هذه المحطات بشكل عابر.
يزعم شتاينماير أنّ سياسة بلاده هي ضبط النفس، والحفاظ على الاستقرار، وحل الصراعات في العالم بالتفاوض. ويعترف أنّ العالم يعاني من فراغ في القيادة، وأنّ الولايات المتحدة وأوروبا تجاهدان لبلورة قيادة ما، محملاً أخطاء الولايات المتحدة الأميركية، وتحديداً الرئيس جورج بوش الابن، وزر تراجع الدور القيادي العالمي لواشنطن، لدرجة أفول الأحادية القطبية. فيما يرفض شتاينماير ما يقوله ناقدو الرئيس باراك أوباما، بأن سياسته سببت فراغا قياديا في العالم، تتوق روسيا وإيران لملئه، خصوصاً في الشرق الأوسط، ويقول إن أوباما يتأقلم مع قدرات بلاده والتحديات التي تواجهها.
الواقع أنّ هذا التشخيص يعني فعليا إقراراً بتراجع الدور الأميركي عالميا، حتى لو كان الوزير يرى تردد أوباما منطقياً وواقعياً. في الأثناء، يقرّ أيضاً شتاينماير أن دخول عشر دول كانت اشتراكية، للاتحاد الأوربي، العام 2004، وتردد دول رئيسة مثل هولندا وفرنسا، إزاء دستور اندماج طموح، أديا إلى تراجع زخم عملية الوحدة الأوروبية. وهو يصل حد قول إنّ النظام الدولي يهتز مع بروز الإرهاب والفواعل غير الدول، وهشاشة وانهيار دول حول العالم، ونزاعات كالنزاع الإيراني-السعودي، وظهور مراكز قوة جديدة، مثل الهند والصين. هذا التخبط هو الذي أدى الى حدّ كبير إلى صعود وبروز ألمانيا كقوة مهمة، قائلا إن "الظروف دفعت ألمانيا للعب دور مركزي".
ويضيف إنّ ألمانيا تمكنت من الصمود والاستقرار، بينما المكانة الأميركية تتراجع تحت وطأة حرب العراق. كما استطاعت أن تبلي بلاء حسناً بمواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية، منذ العام 2008، لكن من دون أن يعني هذا أبدا أن ألمانيا قوة عظمى اقتصادية، بل يشير إلى أن حصتها من إجمالي صادرات العالم تتراجع، ولكنها تبقى قوية ومتماسكة. ويوضح الوزير أن هناك حذرا ألمانيا شديدا ضد التدخل العسكري خارجيا، حتى لحفظ السلام.
من المثير فيما يطرحه شتاينماير أن بلاده تريد المساعدة في بناء "هندسة أمنية" جديدة للشرق الأوسط، على غرار "منظمة الأمن والتعاون الأوروبية" التي وجدت العام 1975. لكنه لا يوضح ماذا يقصد. ولعل هذا يحتاج مزيدا من البحث.
في الأزمة الأوكرانية، يقول الوزير إن فرنسا وألمانيا تلعبان دورا في إدارة هذه الأزمة، "بينما الإدارة الأميركية تركز على تحديات أخرى". ويقول إن بلاده منعت الأمور من الخروج عن السيطرة في أوكرانيا، مع الروس.
ودافع الوزير عن سياسة بلاده بشأن الأزمة المالية الأوروبية، وقال إن اللوم يجب أن يوجه لنخب الدول الأوروبية المتوسطية، بدل الحديث عن دور ألماني في إدخال جنوب أوروبا للفقر والخضوع والسقوط. ودافع عن فتح بلاده المجال أمام دخول اللاجئين، وطالب بجهد أوروبي منسق وعدم الانجرار لبعض الفئات التي تعارض مساعدة المهاجرين لأسباب انتخابية.
يبدو الوزير الألماني محاولا القول إن ألمانيا باتت ضمن الحلقة الصغيرة، التي تضم أيضا الولايات المتحدة وفرنسا في تولي مهام كثيرة حول العالم. واللافت أن بريطانيا شبه غائبة عن حديثه. لكن وجود ألمانيا ضمن الحلقة الضيقة لا يعني أنها قادمة لتصبح قوة عظمى، وأنها ستكمل الولايات المتحدة وتتعاون معها، وتقوم بما كان على واشنطن القيام به، وقد تختلف معها، بأن تتنحى جانبا، إذا اختلفتا، كما حدث بشأن حرب العراق العام 2003.
ألمانيا لاعب دولي أساسي، ولكنها لا تطرح نفسها كمن يغير قواعد اللعبة العالمية، بل تريد ملء الفراغ القيادي للحفاظ على النظام الدولي ذاته، الذي يسمح لها بالصعود والاستقرار