خالد جمعة: «في الحرب .. بعيداً عن الحرب»!

حسن البطل
حجم الخط

ماذا إن اجتمعت في قلم كاتب رهافة الشاعر، إلى رهافة كاتب قصص الأطفال.. فإلى معايشة الحروب على غزة!
في عمله الـ 29 منذ العام 1992 كان الشاعر الفلسطيني ـ الغزي خالد جمعة بئراً ارتوازية غزيرة. 18 كتاباً للأطفال، بينها كتابان للفتيان، و7 مجموعات شعرية.. «وما الحرب إلاّ كما ذقتم» وجمعة ذاق حروب غزة، والثالثة منها بشكل خاص.
سنأخذ من الشعر:
«مُت يا حبيبي حتى تنتهي الحرب/ مُت حتى يمرّ العيد وقهوته المرّة/ مُت قليلاً وسأحرس موتك واقفة/ وحين تمرّ الحرب كذكرى قديمة/ سأخرجك من مخبئك الدّامي/ وأنفض عنك ذاكرة الموت القصيرة ومعاً/ نتناول قهوتنا على الشرفة المتداعية.
ومن النثر المرهف مقدمة الكتاب:
(..) الحرب، ذلك الاسم المؤدّبُ للقتل، يصيرُ البحرُ أكثر زرقةً لكننا لا نراه، وتنمو الورداتُ أسرع، لكننا لا ننتبه، ويفهم الأولاد أكثر مما تتيحه أعمارهم، لكننا لا نلاحظ.
(..) في الحرب تنزل السماء مترين كل يوم.
في الحرب (..) يقتلنا الأطفال الذين وثقوا بنا، تقتلنا القطط التي سلّمت نفسها لأمزجتنا، نتمنّى ألاّ يثق بنا أحد، ألاّ يطلب أحد حمايتنا، لأننا نعرف أن كل شيء قابل للهدم، في الحرب نتحوّل إلى هلوساتٍ مكتومة، إلى دمعات مكتومة، في الحرب نتحوّل إلى كائنات من زجاج...
في الحرب، يقترب الأصدقاء البعيدون، ونصبح أكثر قدرة على المسامحة، نراقب القطط وهي تتصرف بعصبية فنعرف أن الطائرة قادمة، في الحرب، يتحوّل الطيّار الإسرائيلي إلى وجه الدولة الحقيقي، في الحرب، ننتبه على تفاصيل لم نكن نعرف بوجودها، مكان الثلاجة غير المناسب، موقع الحمام من شباك يقابل دبابة، عدد البنايات بيننا وبين موقع أمني، في الحرب، نحسب الوقت الذي يلزمنا لإخلاء البناية، في الحرب، يصير بائع السجائر صديقنا الأقرب، في الحرب، نشكر البشرية على اختراع الإنترنت. (..) نكتشف أننا لم نكن أقوياء كما كنّا نتوّهم...
في الحرب، تنام الأمنيات، تصغر الرغبات، ويصغر معها العالم، أريدُ مكاناً آمناً، أريدُ أن أبقى على قيد الحياة، ليس مهمّاً أن يكون الماء متوفّراً للاستحمام، أريد أن أروي عطشي، أنا محظوظ لأن عشر عائلات فقط معي في الغرفة، لم أعد أعرف اتجاه القبلة كي أُصلّي، ليس مهماً يا أمّي، فأينما ولّيت وجهك فثمّ وجه الله، يدايَ في حربٍ مع الألم، هل من الضروري أن ارفعهما للدعاء؟ لا يا أمّي فالله يرى الدعاء من القلب لا من اليدين، وهل أكون كافرةً إذا قلت إني أخاف من الموت؟ لا يا أمّي فالخوف من الموت أمر تشعر به كل المخلوقات، حتى القطط والفئران، إذاً دعيني أقول لك يا ابنتي ولا تخبري إخوتك الصغار، أقصد أولئك الذين بقوا على قيد الحياة: أنا خائفة من الموت، ولكن إذا كان لا بدّ من قضاء الله، فأنا خائفة أكثر من الموت متناثرة، حسناً يا أمّي، ولا تخبري أبي بذلك: أنا مثلك تماماً...
في الحرب، لا يوجد وقت، يوجد انتظار لا وقت فيه، يوجد وقت له وزن، يتكئ على ظهرك مثل أمنية قديمة لا تتحقق، مثل حبيبة أحبّت سواك دون أن تخبرك أنها فعلت، الوقت يشبه انتظارك لعودتها.
غزة، أعرف كل شبر فيها، سكانها أعرفهم واحداً واحداً، ولو لم أعرفهم (..) كلهم كلهم، ربما ماتوا في الحرب، وربما جميعهم أحياء، وربما مات بعضهم ولم يمت بعضهم الآخر، فكيف لي أن أعرف، وأنا لم أعرف أسماءهم؟
غزة تشبه طفلاً صغيراً، أبدى ذكاءً أكبر من عمره، فأعجب به الناس، واحد طلب منه أن يترجم له جريدة إلى لغة أخرى، وأحدهم طلب أن يصلح له سيارته، وآخر طلب منه أن يصمم له طائرة، ورابع طلب منه أن يقاتل ذئاب الغابة، وخامس طلب منه أن ينقل جبلاً، وآخر أن يجفّف بحراً... تمهّلوا... إنه طفل أظهر ذكاءً أكبر من عمره ليس أكثر (..) لا أريد أن أرى غزة الآن.

*     *     *
ذكّرني كتاب جمعة بكتاب جان جينيه: «أسير عاشق» ثم بـ «أربع ساعات في شاتيلا» أو بتحقيق امتياز دياب عن الانتفاضة الأولى، أو بقصائد درويش (أحمد الزعتر مثلاً).
«يا حبيبي: عندما قلت لك أنك أسرع من الطائرة، كنت أقصد الطائرة التي تلعب بها (..) لم أكن أعرف أنك فهمت أنك أسرع من الطائرة في السماء، وراهنت على سرعتك أن تهرب منها».

*     *     *
الكتاب رباعي اللغات: عربية وإنكليزية وفرنسية.. وبلغارية، أيضاً، ويمكنك أن تمكّن إنكليزيتك وفرنسيتك، وهو صدر حديثاً جداً عن منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية «الترجمة الإنكليزية والفرنسية للينا الحسيني، والبلغارية لمايا تسينوفا.