قرن واحد يكفي لتذويب الأحلام وتبخرها نتيجة الاصطدام بقسوة الواقع الذي أمده الزمن بمبررات الاستمرار والرسوخ. هكذا يعيش من تبقى من العرب مؤمناً بهويته حالة تمزق بين واقعه الصلب، مدمر أحلامه، وبين طموحاته التاريخية إلى بناء غده الأفضل بما يتسق مع فصول المجد من ماضيه الذي يكتسب أكثر فأكثر ملامح الحلم أو التمني في مواجهة الوقائع الصلبة للحاضر الذي يتمنى أن يرفضه٬ فيعجزه افتقاده إلى عوامل القوة اللازمة لتحويل الأحلام إلى واقع معاش.
المسافة هائلة الاتساع بين تاريخ تصنعه بحضورك وقدرتك على الفعل، وتاريخ يُصنع لك في غيابك وفي ظل عجزك عن الفعل. لقد استولدت معظم الكيانات السياسية، في المشرق العربي أساساً، وهي تحمل في قرار إنشائها من خارج إرادة أهلها، أو حتى من دون استشارتهم حولها٬ أسباب عجزها عن الاكتمال بالوحدة. صار الانفصال واقعاً ثقيلاً وعاد الطموح إلى الوحدة حلماً بعيد المنال يسترهنه الأجنبي (وصاحب المصلحة المحلي) لحماية واقع الانفصال.
كان لكل كيان سياسي أنشئ بعد سقوط السلطنة العثمانية ثم هزيمتها واندثارها في الحرب العالمية الأولى، تبريرات وجوده من خارج مصالح الأمة. فمرة هي الطائفية، ومرة ثانية هو النفط، ومرة ثالثة هي الجهوية والقبلية، ودائماً هي توفير الضمانات المطلوبة لزرع الكيان الإسرائيلي في قلب المنطقة، فاصلاً بين «العربين» في المشرق والمغرب.
كان المشروع الإسرائيلي هو الجامع المشترك بين مصالح الشرق والغرب، وعلى حساب أهل الأرض، العرب كلهم بعنوان فلسطين، والعالم كله بعنوان إسرائيل.
كان بين العرب كثرة جاهلة تعيش في أحلامها المشوشة، وبعضها أساطير أو نتف مجتزأة من مراحل تاريخية متباعدة تختلط فيها الفتوحات الإسلامية الأولى التي أنجزها العرب مع الوقائع الصلبة التي توالت بعدئذ٬ فاختلطت فيها أعراق العرب بالفرس والترك والكرد والشيشان والتتار والأوزبك الخ٬ وغيرهم ممن حكم باسم الخليفة أو ورث الخلافة أو بعضها تحت شعار الإسلام٬ ولم يكن للعروبة أثر في هذه «الممالك» التي تم تفتيت دولة الإسلام في طياتها وتلافيفها.. وغاب عنها العرب أو غيّبوا بقرار من صاحب القرار.
كان بين العرب كثرة جاهلة في عصر الظلام الذي امتد طوال قرون، ربما عشرة أو أكثر، تعيش في أحلامها، وقلة واعية تقدم مصالحها المباشرة على الهوية الجامعة. وكان الانفصال استثماراً مجزياً. واستنبتت بعد اندثار «السلطنة» وسيادة دول الاستعمار الغربي دول عدة لكل دولة «نخبتها» التي يؤهلها الأجنبي للحكم (المرتهن بطبيعة الحال لمن أوجده) ثم تأتي المصالح فتأخذ هذا الحكم، مرة أخرى، إلى الأجنبي، بوصفه الضمانة ومرجعية القرار، أي قرار وكل قرار.
جرى تقسيم منطقة المشرق العربي دولاً بحسب مصالح من استولدها. لكن ذلك التقسيم واجه اعتراضات شعبية بل انتفاضات بلغت حدود الثورة في العراق (سنة 1920) وسوريا (سنة 1925). لكن الأجنبي الذي كان يرى هذه البلاد بعيون مصالحه سارع إلى ضرب حركات الاعتراض: الشعب بالنار، والقيادات بالسلطة ومعها شيء من الذهب. مكّن في دول أقليات كي تحكم أكثرية مغلوبة على أمرها، وساوم الثوار في دول أخرى على السلطة مقابل التسليم بالكيان المبتور جغرافياً وبشرياً، كما كانت الحال مع سوريا وفلسطين والأردن والعراق ولبنان٬ إذا ما استذكرنا سوريا الكبرى أو الهلال الخصيب. إذ إن الجغرافيا استولدت تنظيمات وحركات وأحزاباً سياسية لكل قطر (ولو مبتورة الجغرافيا كما في حالة سوريا والأردن، أو حالة العراق والكويت الخ..) كما استولدت حركات وأحزاباً سياسية تناضل من أجل وحدتها الطبيعية (سوريا الكبرى أو الهلال الخصيب) في حين أن مصالح «النخبة» التي رعاها المستعمر واعتمدها لحماية استمراره كصاحب قرار قد قسّمت الكيانات المقسّمة أصلاً، بما يتناسب مع مصالحه، وهو مصدرها ومتعهّد حمايتها.
ذلك حديث في الماضي؟
ليس تماماً. فها هي الوقائع التي تكتب الآن بدماء شعوب المشرق العربي تؤكد أن ذلك الماضي يستخدم الآن لضرب الحاضر وخلخلة الكيانات السياسية القائمة لحساب مشروع أو مشاريع غامضة لكيانات عنصرية أو طائفية تشكل أسباب حماية ودعم للكيان الوحيد الذي زرع بالقوة في قلب هذه الأمة٬ وما زالت قوى الاحتضان الدولي له بالقيادة الأميركية توفر له ليس فقط أسباب الاستمرار بل وكذلك أن يكون الأقوى بين مجموع الكيانات الضعيفة والتي غدت الآن أضعف ومهدَّدة في وجودها، نتيجة الاحتلال الجديد (أميركياً كما في العراق) أو الحروب فيها وعليها (كما في سوريا واليمن..).
ليس سراً أن المشرق العربي الآن أمام مفترق طرق تاريخي: هل تبقى دوله التي أنشأتها بحدودها الراهنة مصالح مَن تقاسم أرضه في أعقاب الحرب العالمية الأولى (أي قبل قرن كامل)؟ أم أن المشروع الإسرائيلي، المستفيد الأعظم من خراب هذه الدول سيكون «دولة هذا المشرق جميعاً»، بكل أقطاره، من لبنان إلى اليمن؟ هذا مع إخضاع مصر لوصايته وكذلك دول المغرب العربي بدءاً بليبيا التي تفتقد دولتها، إلى تونس التي يتهدّدها الصراع السياسي بالتهالك، كدولة، إلى الجزائر المغيّبة (مع رئيسها الذي يرفض أن يرتاح ويريح)، وانتهاء بالمغرب الذي كان السباق إلى «تطبيع» العلاقات مع إسرائيل، التي كانت عدواً، فباتت في موقع القيادة في هذا العالم العربي مفكك الأجزاء وكلها مرتهن لدى دولة أجنبية أو أكثر، ودائماً بالقيادة الأميركية!
هنا ينبغي التوقف أمام أوضاع الدول التي ينتظمها «مجلس التعاون الخليجي» بالقيادة السعودية، وهل ستخرج بكياناتها سليمة من نتائج هذه الحرب المفتوحة في دول المشرق العربي، وصولاً إلى اليمن، وعليها؟
هل يكفي النفط ومعه الغاز ضمانة استقرار لهذه الكيانات واستمرارها بدورها الذي يتجاوز ابتزاز «الإخوة الفقراء» في الدول العربية إلى المشاركة في الحروب الدائرة في بعض المشرق (من سوريا إلى اليمن مروراً بالعراق..) والتي تتهدد هذه الدول في وحدة كياناتها بل ربما في وجودها كدول؟
وهل سيغفر أهل هذه الدول لإخوتهم الأمراء والمشايخ وصولاً إلى الملك ذي وليي العهد (أول وثانٍ)، ويتقبلون النتائج الكارثية مستسلمين، ومن دون أي رد فعل كمحاولة الحفاظ على الوجود والردّ على التخريب بالتخريب والانتقام لتهديم دولهم أو إذلالها حتى المهانة بالمساعدات التي ترهن إرادتها وتضعف حكمها وتلغي دورها وتأثيرها وحق شعوبها في حياة كريمة؟
وأين يكون العدو الإسرائيلي من كل هذه التداعيات المحتملة؟
وأين الإدارة الأميركية ـ جمهورية كانت أم ديموقراطية ـ من هذه التطورات المحتملة؟ وأين روسيا التي تحاول أن تستعيد دورها كقوة كبرى (لا عظمى)، خصوصاً أن لها الآن وجودها الوازن الذي قد يصل إلى حدود الشريك مع الغرب الأميركي.. حتى في العلاقة مع العدو الإسرائيلي؟
قد تتبدّى صورة الواقع العربي كالحة السواد.
لكن صورة المستقبل العربي كما ترتسم ملامحها الأولى لا تبشّر بالخير، بل هي تنذر بكوارث تذهب بدول الحاضر من دون القدرة على تخيل بديلها.
ومفهوم أن «دولة الخلافة الإسلامية» لن تكون البديل، وإن كانت «إنجازاتها» المدمّرة قد أسهمت في زيادة الغموض والتشويش على ما يمكن أن تكون عليه صورة المستقبل في هذه المنطقة ذات الأهمية الاستثنائية بثرواتها ومعها موقعها الاستراتيجي، وشعوبها ذات التاريخ!
السؤال: مَن يقرر مصير العرب ودولهم في هذه اللحظة، وبعد مئة عام من وجودها (أقله في المشرق)؟ وهل هم شركاء أم أصحاب رأي في ما يُقرَّر لهم، أم أنهم باتوا أضعف من ذلك، يقفون على أرصفة التاريخ ينتظرون مَن يقرر هل من حقهم أن يدخلوه ليُعيدوا صناعته بإرادتهم وبحقهم في غد يليق بماضيهم الذي تتناهبه الشكوك٬ حتى أن بعضهم ينكره أو يتنكّر له، والنتيجة واحدة!
مَن يعرف الجواب سيربح المليون، كما يعلن البرنامج التلفزيوني الشهير.
عن السفير