منذ اندلاع الهبّة الشعبية الفلسطينية قبل نحو سنة، ما زالت أصداء الجدل حول القدس، وما مثلته من "مركز ثقل" ضمن سياق مقاومة الفلسطينيين المتجدّدة، تتردّد في الأجواء العامة.
وكان آخرها قبل شهر ونيّف، بالتزامن مع إحياء "إسرائيل" ما تسميه "يوم القدس"، وهو "يوم عيد قومي" أقرّه الكنيست في إطار قانون خاص سنّه عام 1968 للاحتفاء بـ"توحيد شطري المدينة تحت السيادة الإسرائيلية"، في إثر احتلال القدس الشرقية في يونيو/ حزيران 1967. وتُطلق على هذا اليوم أيضًا أسماء أخرى، مثل "يوم تحرير القدس"، و"يوم حرية القدس"، و"يوم توحيد القدس"، من منطلقٍ يعتبر فرض السيادة الإسرائيلية على القدس العربية، بما في ذلك البلدة القديمة، بمثابة "خلاص من وطأة احتلال أجنبي".
ولعلّ ما تسبّب بتأجيج الجدل، فضلًا عن خصائص الهبّة الشعبية، إنشاء حركة سياسية جديدة في "إسرائيل"، تطلق على نفسها اسم "الحركة لإنقاذ القدس اليهودية" من طريق محدّد، هو إيجاد "حلول" لـ"معضلة القرى والأحياء العربية (الفلسطينية) في القدس وحولها"، وتقصد "المعضلة الديموغرافية"، وترفع شعار أن "مسألة إنقاذ القدس اليهودية مسألة يهودية صرف، لا مسألة يمين أو يسار"! وتأدّى عن إنشائها تسريع مشاريع استيطان إسرائيلية كثيرة في القدس الشرقية وتوسعتها.
وفي المعتاد، درج رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، على تجاهل بيانات للإدارة الأميركية، تعبر عن الاحتجاج على مصادقات بناء في مستوطنات الضفة والقدس، غدت واقعًا روتينيًا خلال السنوات الأخيرة، خصوصًا في فترة ولاية أوباما، لكنه، قبل أسابيع، اختار الردّ بأسلوبٍ اتسم بالتحدّي والمواجهة، حيث قال: "نحن نعرف الموقف الأميركي، فهو ليس جديدًا وغير مقبول علينا. البناء في القدس والمستوطنات ليس هو ما سيُبعد فرص السلام... وآن الأوان لأن تقرّ أمم العالم قاطبة بهذه الحقيقة الأساسية والبسيطة".
هذا الموقف الصهيوني من القدس يتم إسناده بـ"جبل" من الدراسات التي تؤكد أن المدينة هي "المركز السياسي- الديني الأهم للشعب اليهودي على مرّ التاريخ". وبناء على ذلك، فإن اشتقاق اسم "الحركة الصهيونية" من صهيون، وهو اسم آخر للقدس في المراجع الدينية اليهودية، لم يكن من قبيل المصادفة.
إحدى هذه الدراسات كتبها دوري غولد، المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية، وحاول فيها أن يعزو إلى الإسلام "نظرة انتقائية" إزاء القدس، تتميز باعتبارها "مدينة هامشية" من الناحية الدينية، وادعّى أن المكانة الخاصة للقدس في الإسلام مرتبطةٌ، أكثر شيء، بعلاقتها مع الأنبياء والرسل الذين سبقوا الدين الإسلامي، وورد ذكرهم في القرآن الكريم.
بحسب هذه الدراسة وغيرها، فإن مكانة القدس الدينية الخاصة، أو المركزية، في الإسلام، كان مصدرها مرجعيات إسلامية قريبة منها جغرافيًا وحسب. ومن هذه المرجعيات، مثلًا، الخلافة الأموية التي اتخذت من دمشق مركزًا لها، وأولت القدس اهتمامًا دينيًا خاصًا بسبب المنافسة التي كانت قائمة بينها وبين مكة. كما يُشار إلى أنه، من الناحية العملية، فإن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (685- 705 م) هو الذي شيّد، عام 691 م، قبة الصخرة، وأعلن أنها بديل للكعبة المشرّفة في مكة، غير أن إعلانه هذا ألغي بعد عام واحد، في إثر سيطرة الأمويين على مكة.
ويشدّد غولد على أن القدس لم تكن في صلب الوعي الديني الإسلامي على نحو دائم، خصوصًا في فترة الخلافة العباسية التي اتخذت من بغداد مركزًا لها، والتي حلت محل الخلافة الأموية، بدءًا من عام 750م. فضلًا عن ذلك، فإن الخليفة العباسيّ الأشهر هارون الرشيد، الذي درج على الحجّ إلى مكة مرة كل عامين، لم يقم بزيارة القدس بتاتًا، على الرغم من وصوله إلى سورية، لخوض حروب مع البيزنطيين. كذلك فإن خليفته المأمون وسائر الخلفاء العباسيين لم يزوروا القدس على الإطلاق.
عليّ التنويه هنا أنني حدّدت غايتي في إيراد الادّعاءات الإسرائيلية بشأن "الاستملاك الصهيوني" للقدس، والإحالة إلى دلالاتها، أكثر من الاستغراق في تفنيدها.