فلسطين والتنمية المستدامة.... الضفة وغزة إلى إين؟!

9999470220
حجم الخط

 

ابدأ مقال اليوم بالنتيجة، وهي اننا عندما نتحدث عن نموذج الضفة الغربية وغزة فهذا نقيض وإجهاض لمكونات وأهداف وآليات التنمية المستدامة الكلية والشاملة، والتي لا يمكن أن تتجزأ . لكنها الحقيقية السياسية ، التي تتعمق كل يوم بوتيرة متسارعة يوازيها انحدار لكل أهداف التنمية المستدامة.

ومنذ البداية هناك من يقول ويشكك اننا تحت الإحتلال ، ولا يمكن ان نتحدث عن التنمية المستدامة التي هي اكبر من قدراتنا ومواردنا، وهذا الرأي لا يستند للواقع على الإطلاق. بل هناك من يسعى لشدنا نحو الهاوية ، ويفرغ كل محاولات بناء دولة المؤسسات والشفافية من مضامينها وأهدافها الحقيقية ، وبعبارة اخرى كأن المعادلة السياسية ان نبقى بلا رؤية تنموية ، وأن تبقى كل المشاكل الإجتماعية والإقتصادية من فقر وجوع وبطالة وعجز عن تدبر القوت اليومي للحياة ،لأن هذه المشاكل تتغذى عليها بنية الإنقسام الأمنية القمعية.اعود وأتساءل أين نحن من التنمية المستدامة ؟. واين غزة والضفة كل منهما من هذه الرؤية ؟

بداية لم تعد التنمية المستدامة حالة خاصة بدولة او مجموعة دول ، بل إهتمام عالمي وأممي بدأ مع تشكيل اللجنة العالمية للتنمية والبيئة سنة 1987، ومنذ ذلك الوقت تعقد المؤتمرات والمنتديات ، وتجري الدراسات، والهدف هنا واضح ان الهدف من التنمية المستدامة هدف عام مشترك، فلا يمكن ان تعيش دول وشعوب في رفاهية على حساب الجيوب والمناطق الفقيرة في العالم، فالأمن والسلام العالمي لا يمكن أن يتجزءا. ومن هنا بدا هذا المفهوم يكتسب اهمية كبيرة ويزاحم الكثير من المفاهيم : مثل العولمة والحداثة ، وما بعد الحداثة ، وصراع الحضارات. ودون الدخول في تفاصيل هذا المفهوم الذي يمكن تعريفه ببساطة بأنه يتعامل مع الإنسان والأرض. ويقوم على القدرة على تلبية الإحتياجات المتزايدة والمتنامية للبشر دون المساس بالحاجات المستقبلية للأجيال القادمة.

التنمية المستدامة تتعامل مع الفقر والجوع والتلوث البيئي، ومحابة الأوبئة والحفاظ على الصحة البشرية ، ومع قضايا التصحر والغابات والزراعة والأمن الغذائي، ولها جوانبها الإجتماعية الخاصة بمنظومة الحقوق المدنية ، والمساواة بين الجنسين في الحقوق، والتكافؤ في الفرص المعيشية، وفي الشراكة الحياتية الإنسانية، وفي السلام والعدالة الإجتماعية.

هذه بعض الجوانب المادية والبشرية للتنمية المستدامة، والسؤال ثانية أين نحن من كل هذا المظاهر؟ وهنا قد يكون التشخيص مطلوبا، لما نلاحظه من مظاهر التسول التي تزداد في شوارعنا، وفي البحث عن الغذاء في النفايات، وفي الفقر الذي لا تقل نسبته عن أربعين في المائة من سكان غزة تحديدا، وإرتفاع نسب البطالة ، وما يصاحب ذلك من مشاكل إجتماعية من عنف ، وقتل، وطلاق يهدد البناء الأسري، والتفاوت في التعامل في منظومة الحقوق وخصوصا بين الجنسين، وتراجع منظومة القيم، وسيادة مفهوم الأمن القمعي على حساب الأمن المجتمعي المدني، ومن المظاهر اللافتة للنظر إنتشار جيوب الأثرياء على حساب جيوب الفقر الأكثر إنتشارا، وظاهرة أكواخ الصفيح التي تتجاور بعض المدن العمرانية الفارهة.

هذا التفاوت قد يخلق حالة من الحقد والكراهية المجتمعية ، ويوفر بيئة حاضنة للإرهاب والعنف والتشدد والتطرف. ومن المظاهر الخطيرة والكارثية وخصوصا في غزة تراجع الأرض الزراعية ، وهو ما يفاقم مشكلة الأمن الغذائي، وهي مشكلة تزداد حدة مع الزيادة السكانية الكبيرة، فاليوم عدد السكان في غزة يقترب من المليونين في مساحة لا تكفي للعيش البشري، فكيف للمخلوقات الأخرى، هذا الإكتظا ظ السكاني سينفجر على نفسه اولا، ثم على محيطه، مع غياب وتضاؤل كل فرص الحياة والعمل، وضيق مصادر الحياة، وهنا المشكلة مركبة مع الفكر الديني الذي يعتمد في جانب منه على الفكر الغيبي، بمعنى تزايد الإقبال على الزواج، رغم قلة فرص العمل، والإعتماد على الفكر الإتكالي.

ومن المظاهر الأخرى الكارثية أيضا تزايد الإقبال على الجامعات والتخصصات النظرية التي ليس لها سوق عمل، وتزايد عدد الجامعات والمعاهد الخاصة ، ورغم انها ظاهرة إيجابية ،لكن يغلب عليها الطابع التجاري، لكن المشكلة انها في واد والرؤية التنموية في واد آخر، فقط هدفها تخريج افواج من الشباب الذين لا تتناسب دراساتهم مع الحاجة لأسواق العمل والتي هي اصلا معدومة. وكل هذا في وقت تسد فيه أفق العمل الخارجي، وتشديد الحصار، والخروج والدخول.

ماذا تعني كل هذه المظاهر؟ ببساطة عدم وجود اي مظهر من مظاهر التنمية المستدامة لا في غزة ولا الضفة. فالإنقسام، والحفاظ على الكينونات السياسية الصغيرة في كل منهما، والحفاظ على السلطة أدى أولا إلى غياب التفكير الإستراتيجي من قبل الحكومة المنشغلة بقضايا الأمن، وتوفير الحد الادنى من الإستجابة لمطالب الحياة. . وثانيا سيادة الثقافة القمعية الأمنية ، وتراجع روح المواطنة الواحدة. والتصارع بين الخيارات السياسية وخيارات المقاومة وخيارات التنمية. والإعتماد الكلي على المنح والمساعدات وهي سياسة قصيرة المدى.

لا انكر تأثير الإحتلال، وسيطرته على الأرض الفلسطينية ومواردها، لكن هذا لا يمنع من التفكير الإستراتيجي في التنمية المستدامة، وخصوصا في غزة التي يفترض ان الإحتلال غير موجود على الأرض. وقد تكون هناك فرص اكبر لتحقيق هذه التنمية في ظل الرؤية الشاملة.

الأسباب التي تقف وراء غياب التنمية المستدامة كثيرة، اذكر منها على سبيل المثال: الإغراق في عمليات التوظيف المدني والعسكري خصوصا، وغياب دور القطاع الخاص في إستيعاب الخريجين، الإنفاق الأمني والعسكري غير المسبوق، تحت ذريعة المقاومة والتحرير، ولا أحد ينكر الحق في المقاومة.لكن أي مقاومة؟ وأي إنفاق؟ الإنفاق على التسلح بشكل كبير، وتخصيص الموارد على حساب التنمية المدنية والإستثمار الجيد في التعليم والصحة والطاقة. الفساد الإداري وغياب وسائل الرقابة ، وتعطل كل مؤسسات الشرعية والحساب بسبب غياب الإنتخابات.

لا احد يمكنه ان يسأل أن يذهب المال، تدفق الاموال في القنوات غير الشرعية، الإنفاق الحكومي الكبير، والرواتب العالية ، والحروب والتي هي اقصر الطرق لتدمير الإمكانات البشرية والمادية المحدودة ، وهذا الخيار هو الخيار المدمر لاي فرص للتنمية المستدامة، ولنتصور ماذا تعني ثلاث حروب على قطاع غزة من منظور التنمية المستدامة؟ وكم خسرنا ماليا وبشريا، بدون تحقيق أهدافنا؟

والتحكم في موارد الشعب او الدولة تجاوزا ، والتصرف فيها دونما إعتبار لحاجة الأجيال القادمة التي قد لا تجد منزلا تعيش فيه، وقد لا تجد فرصة عمل واحدة إلا بالبحث في النفايات، ومشاريع النظافة. الأرض محدودة جدا ، والحلول التي تقترح في غزة مثلا لأزمة الرواتب لا تأتي عن طريق التصرف في الأرض التي هي حق وملك للأجيال القادمة. ما يتم من سبل وعلاج كلها مسكنات مؤقته.

والحلول كثيرة ، وقد لا يتسع المجال للخوض فيها في هذا المقال. لكن بدون التعجل بالتفكير الإستراتيجي، والإتفاق على الخطوات الأولى للتنمية المستدامة بمساعدة اممية فالإنفجار البشري قادم وسيلتهم كل من يقف في طريقه، الجوع والفقر والبطالة لا يوقفها خوف ولا قمع ولا إعتقال، وبدلا من التفكير في بناء السجون الأجدر بنا ان نفكر في بناء مدرسة ومستشفى وطريق.

والحديث يطول، لكن لا دولة ولا تحرير بدون التنمية المستدامة.