تنشغل المواقع ووكالات الأنباء بالحدث الفلسطيني،أيّ كان، ليس لسمو وعدالة المسألة، وليس للحق المصاحب لهذه القضية، وليس لعظمة هذا الشعب وثورته المستمرة، فهذا كان مما مضى زمانه، وما أظن أن كثيرا من الاهتمام يأتي انتصافا للفلسطينيين الذين وقع عليهم أفظع ظلم تاريخي.
يأتي الانشغال والتركيز الغربي خاصة في سياق تركيز الأنظار على هذه المنطقة وبؤرتها الرئيسة فلسطين لمالها من أهمية، ولما لها من حيوية ارتبطت بحقيقة "الزرع" الذي زرعته العقلية الغربية الاستعمارية في منطقتنا العربية، ورغبتها بكل الوسائل أن ترى ثمار هذا الزرع وقد أينعت وترعرعت.
يأتي منطق تثبيت هذا الزرع أو هذه الشجرة التي زرعت، لأنها لا تظلّل إلا زارعيها وان كانوا في البعيد .
إن الاستعمار الغربي الذي زرع (اسرائيل) في بلاد فلسطين، كان يجتهد أن يرى الثمرة تدميرا للوجود الفلسطيني لشعب يموت كباره وينسى صغاره فما مات الكبار ولا نسى الصغار.
ولم تجني قوى الاستعمار الثمار التي تمنّتها وأرادتها بشكل كامل ، فلا فلسطين تشابه كندا ولا هي تشبه استراليا، وان كان بين فلسطين مع جنوب إفريقيا شبهٌ يطلُ من وراء شبح العنصرية، الذي يغمرنا اليوم، وكان يطل على (جوهانسبورغ) بظلّه الثقيل قبل الاستقلال.
استطاعت العقلية الاستعمارية الغربية أن تجعل من فلسطين جسرها على العالم العربي تخترقه سياسيا وحضاريا واقتصاديا وعسكريا، وتُدمي قلبه وعقله، واستطاعت أن تشتت فكره وثقافته وتبرز "وضاعة" تاريخه وحضارته ( ) في مقابل الحضارة الغربية (العظيمة) التي تشكل (اسرائيل) -كما يردد (نتنياهو) بلا كلل- لها رأس الحربة المنظمة.
استطاعت "الوضاعة" في العقلية الغربية الاستعمارية أن تسرق وتغتصب أرضا بكل وقاحة، وأن تفرض وجودا بشريا بكل وقاحة، ما كان له من وجود لا تاريخي ولا قومي ولا حضاري هنا، لتكريس هذا الوجود البشري بمرور الزمن على أنه (شعب) أو (قومية)، فينشأ هذه الشعب الجديد محملا بإرث النازية، وصلف الاحتلال وعقليته العنصرية، ويزيد عليها إرث التهيؤات والأكاذيب التوراتية المهترئة التي تدّعي العلاقة بين جغرافيا ما، وقبيلة ما، مع وجود بشري جديد وديانة ما، لتكون كلها على اختلافها وتنافرها وتعدد النظر لها زمانيا ومكانيا وكأنها ارتبطت بأرضنا بأرض فلسطين.
تراوحت البدائل لدى العقل الغربي الاستعماري لحل معضلته هو، وليس نحن كعرب وفلسطينيين ومسلمين ومسيحيين شرقيين، معضلته التاريخية المتمثلة بالكراهية والحقد أو الحسد لمكوّن غريب على حضارته الغربية المسيحية الغربية آنذاك بأن يتم التخلص من هذا المكوّن بأي ثمن وأن تحالف معه في مرحلة لاحقة لتلتقي المصالح.
يكتب د.طيب تيزيني في صحيفة الاتحاد 5/9/2016 (حلت المسألة الطائفية في معظم العالم العربي، لتعود إلى المقدمة في مشاريع «التطهير الطائفي والإثني والعرقي»، وهذا له دلالة فاحشة نستنبطها مما كتب الزعيم الصهيوني هرتزل في كتابه «الدولة اليهودية» الصادر عام 1896، يقول: «إن دولة اليهود في فلسطين يجب أن تشكل جزءاً لا يتجزأ من سور الدفاع عن أوروبا في آسيا، وقلعة للحضارة في مواجهة البربرية»)، وهي ذات الأكذوبة أي "القلعة الحضارية" التي ما فتأ يرددها "نتنياهو" اليوم.
تراوحت البدائل ما بين أوغندا أو كينيا أو ليبيا أو الارجنيتين أو غيرها من الدول وتعددت الخيارات ،التي كان التفكير بها أو الاعداد لها بالغرب لأكثر من قرنين، ومع هذا التعدد الذي يلغي حقيقة (التاريخ) أو (الحضارة) أو (القوم) أو (الشعب) المرتبط بفلسطين إلا انه لهذه الاعتبارات أيضا كان القرار بإيجاد هذه العلاقة ارتباطا بالتفسير الجغرافي التاريخي لأساطير التوراة وهذا ما كان.
كتب د.حسن حنفي: (لما انقلبت الموازين، وورث العرب الإمبراطورية الرومانية على ضفاف البحر الأبيض المتوسط؛ في الجنوب مصر والمغرب العربي، وفي الشرق فلسطين، وفي الشمال بحر إيجة، أراد الغرب الثأر من خلال الحروب الصليبية، وهذه المرة تحت غطاء المسيح واسترداد السيطرة على البحر. فلما فشلت الحملة الصليبية استؤنفت مجدداً في الاستعمار الجديد بالالتفاف حول أفريقيا وآسيا ثم إعادة التوجه نحو القلب عبر البحر في فلسطين.)
إن الاهتمام العالمي باختيار فلسطين ليس لاعتراف عالمي بالذنب، أو الاغتصاب، أوبالظلم التاريخي، أو بالخطيئة والجريمة التي ارتكبت منذ زمن مضى، وقانونيا وسياسيا منذ صك الانتداب ثم قرار التقسيم .
وما الاهتمام العالمي المتبدّي تجاهنا يعلو أو يخفت أحيانا لكنه لا يزول، ليس هذا الاهتمام رغبة بتصحيح هذا الجرم الذي ما بعده جرم، وإنما تعظيما للدعم الاستراتيجي للشجرة الغريبة التي هي بمثابة سد حقيقي أقامه الساسة الغربيون ضد قوة ونهضة هذه الأمة، ولتظل تعاني ويلات التشرذم والتعنت والتقسيم انتقاما من ماضي سادت فيه حضارة هذه المنطقة، وتأبيد استمرارية الكيان العنصري الوليد على حساب الشعب والأرض التي ليس له فيها أدنى حق كما أنه ليس له حق في كينيا أو أوغندا أو الأرجنتين.
قال "نتنياهو" في تصريح مكتوب: "لقد سمعت أن السلطة الفلسطينية تنوي مقاضاة بريطانيا حول إعلان بلفور، ومعنى ذلك أنها لا ترفض الدولة اليهودية فحسب بل هي ترفض البيت القومي اليهودي الذي سبق الدولة اليهودية".
وقال الرئيس أبومازن : "لقد انقضى قرابة قرن من الزمان على صدور وعد بلفور في العام 1917، وبناء على هذا الوعد المشؤوم، وعد من لا يملك لمن لا يستحق، تم نقل مئات الآلاف من اليهود من أوروبا وغيرها إلى فلسطين، على حساب أبناء شعبنا الفلسطيني الذين عاشوا وآباؤهم وأجدادهم منذ آلاف السنين على تراب وطنهم".
إن الاعتراف بالجريمة، يجب أن تكون البداية لأي حراك مهما كان، مع ما يليه من استتباعات سياسية وقانونية، لا تأخذ بالاعتبار أبدا الأكاذيب التاريخية والجغرافية التوراتية التي لم يصوّت إلى جانبها لا حجر ولا شجر ولا ذرة رمل في فلسطين، ولا حتى العلماء الاسرائيليون المنصفون.
وعليه فان الحراك الفلسطيني العظيم الذي يرفع القضية القانونية ضد بريطانيا على ما يسمي زورا "وعد بلفور" ، يجب أن يليه رفع مثله على "صك الانتداب" ثم على "قرار التقسيم"، ومن هنا البداية السياسية الحقيقية للحل.