الجملة الاولى لرئيس مجلس العلاقات الخارجية ريتشارد هاس، الدبلوماسي القديم والشهير– كانت جملة تحفظ. فقط دعي الى مقابلة اذاعية كي يشرح السياسة الخارجية للمرشحين للرئاسة، ولكنه شعر بالحاجة ليذكر بان يقوله المرشحان، ما بشكل ما، اثناء الحملة «يستهدف زيادة فرصهم للانتخاب». يحتمل أن تكون في رأسيهما خطوط توجيه للسياسة ويحتمل الا تكون. مهما يكن من أمر فانهما لن يكشفا الا عما يناسبهما حزبيا فقط. واذا تبين ان هذا ليس مناسبا، مثلما حصل لدونالد ترامب بالنسبة لسياسة الهجرة، فلن يترددا في التغيير. لا تغيير السياسة بل تغيير ما يقولانه إنه سياسة.
وعليه فان كل بحث في السياسىة المتوقعة لهيلاري كلينتون، على افتراض يبدو معقولا، الان، بأنها ستنتخب للرئاسة، يجب أن يبدأ بملاحظة تحذير. فكلينتون لم تكن ابدا سياسية تميل الى كشف اوراقها. فهي امرأة شكاكة، محوطة باسوار من الموالين وجهاز مزيت من المستشارين والناطقين، خبيرة في الاخفاء، وتفضل السرية. فهذه الامور أعطتها سمعة المرأة التي ليست مستقيمة تماما. صورة مناورة واشنطنية. هذا ما دفع بعض الاميركيين الى أن ينبشوا المرة تلو الاخرى في الرسائل التي بعثت بها في مسار يتجاوز وزارة الخارجية على فرض أن شيئا ما غير مناسب بالتأكيد يختبىء فيها. وان لم يكن كذلك فلماذا كلفت نفسها عناء التجاوز، الاخفاء، والتملص من قول الحقيقة؟
ولكن لمراجعة ما سترغب كلينتون في تحقيقه في السياسة الخارجية توجد ايضا ميزة مفهومة لمراجعة سياسة خصمها ترامب. فهو يتحدث فقط، اما هي فقد سبق ان فعلت شيئا او اثنين. هو لا يفهم الكثير أما هي فبلا شك تعرف وتفهم أكثر بكثير. لكلينتون سجل: فقد أيدت الاجتياح الاميركي للعراق في العام 2003. وعمل هذا في طالحها في انتخابات 2008. اما ترامب فيحاول استغلال هذا ضدها اليوم ايضا بدعوى أنه يوجد لها تاريخ من التأييد لمثل هذه المغامرات. وهو محق؛ فمثلما ايدت كلينتون الهجم على العراق، هكذا ايدت قبل ذلك بكثير، في عهد ادارة الرئيس بيل كلينتون، التدخل الاميركي في الحروب في يوغسلافيا، وهكذا أيدت بعد ذلك بكثير، في عهد الرئيس براك اوباما، التدخل الاميركي لاسقاط نظام معمر القذافي في ليبيا. قد لا تكون كلينتون تسارع الى التدخل مثل بعض المستشارين الصقريين للرئيس جورج بوش، ولكنها بالتأكيد غير مشبوهة بالانعزالية الممتنعة مثل تلك التي يقترحها ترامب.
يمكن لهذا ان يؤثر على الشكل الذي ستعمل فيه كلينتون في سورية، اذا لم تشعر بان العمل بات متأخرا. في ادارة اوباما كانت من كبار المسؤولين الذين اعتقدوا بانه يمكن والمرغوب فيه العمل اكثر. ليس حربا، ولكن، ربما مظلة جوية تمنع طائرات ومروحيات بشار الاسد من الاقلاع. اما اوباما كما هو معروف، فقد حسم خلاف ذلك. وسيجعل هذا الحسم كل قرار للرئيس التالي أصعب، وذلك لان الحقائق تقررت على الارض، بما في ذلك حقيقة التدخل العميق للروس وللاتراك، والذي سيكون من الصعب على اميركا ان تدحرجه الى الوراء.
قالت وكانت محقة
تدعي كلينتون بان ترامب يعتزم السماح للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بالتلاعب. وهذا بالطبع ادعاء حزبي ولكنها تعتمد على مؤشرات الى انه من السهل اكثر على المرشح المنافس لها ان يسلم بالعدوانية الروسية في سورية وحتى اوكرانيا. فنبرة كلينتون بشأن بوتين اكثر تشددا بكثير. اكثر تشددا حتى من اوباما. يخيل أن المرشحة الديمقراطية تعتقد بان من واجب ومصلحة اميركا ان تحتوي العدوان الروسي والتأكد من أنه لا يهدد الجيران الاوروبيين وانه لا يكتسب موطئ قدم على حساب اميركا في اماكن اخرى في العالم. والشرق الاوسط هو بلا شك واحد منها.
ما الذي ستفعله عمليا كي توقف بوتين؟ يجدر بنا أن نذكر بان تاريخ كلينتون مع روسيا لا يعطي الثقة بقدرتها على التصدي له. فكوزيرة خارجية لاوباما، بادرت كلينتون الى «اعادة البدء» في العلاقات مع روسيا – بما في ذلك ذاك الحدث المحرج الذي قدمت فيه لوزير الخارجية، سيرجيه لافروف، زرا أحمر كان يفترض ان يرمز الى إعادة البدء، ولكن في نظرة الى الوراء تبين انه وقع خطأ، في الكتابة الروسية التي كانت عليه، وبدلا من كلمة «اعادة البدء» كتب «الاستحقاق الزائد». وفضلا عن خلل الزر، فان اعادة البدء نفسها ايضا لم تفلح. فالعلاقات مع روسيا خربت في اعقاب اجتياحها لجورجيا في عهد بوش. اوباما اعاد بدأها، تخلى عن غير قليل من الذخائر في شرق اوروبا مقابل النية الطيبة للروس، وفي نهاية المطاف اضطر الى أن ينظر بدهشة كيف تجتاح روسيا اوكرانيا.
يحتمل أن تكون كلينتون تعلمت درسها من هذه الاحداث. وهي بعيدة عن الاحلام الطوباوية، وفكرها متصلب وواقعي. عمليا، منذ جورج بوش في نهاية الثمانينيات لم يكن في البيت الابيض رئيس تشبه أفكاره جداً أفكار مؤسسة العلاقات الخارجية الاميركية. وهي لن تكون رئيسة تتحدى هذه المؤسسة بافكار متطرفة او تخيفها باقتراحات شاذة. وهي لن تكون رئيسة تستخف بها مثلما يستخف بها ترامب. هي ستكون رئيسة تعتمد عليها، رئيسة تشكل بلا صعوبة فريقا دبلوماسيا من كبار المحترمين.
انها امرأة تؤمن بالتحالفات الدولية، بالائتلافات، بالعمل مع اصدقاء اميركا. احد الجدالات الجوهرية التي خاضتها في ادارة اوباما كان ضد قرار الرئيس هجر الرئيس المصري، حسني مبارك. فاذا كانت أميركا ستهجر اصدقاءها – وكان مبارك صديق الادارات الاميركية على مدى 30 سنة – فكل حلفائها سيشككون بمصداقيتها، هكذا ادعت في الجلسات الطويلة التي شاركت فيها في بداية ما سمي في حينه «الربيع العربي». لقد كانت، على مدى الطريق، شكاكة بالتغييرات السريعة جدا التي تجري في دول مهمة. وقالت في حينه لنائبها، جيم ستاينبرغ، إنها لا تؤمن بان الجمهور في ميدان التحرير سيتمكن من توفير بديل مناسب لمبارك. قالت، وكانت محقة.
خليط غير عادي
ولكن كان هناك غير قليل من المرات التي اخطأت فيها كلينتون. ودفاعا عنها يقال انها لم تجلس أبدا في مقعد السائق. اوباما كان يجلس فيه، ولم يكن دوما يسمح لوزرائه، حتى كبارهم، ان يرسموا السياسة الخارجية. وأكثر من ذلك: اليوم ايضا لا تجدها حرة في أن تقول كيف تنوي ان تقود، وذلك لانها تسعى الى كسب اصوات غير قليل من المواطنين – بمن فيهم المصوتون الديمقراطيون لبيرني ساندرز – والذين يمكن لسياستها أن تبدو لهم يمينية اكثر مما ينبغي.
النتيجة تكون احيانا اشكالية. فقد أيدت كلينتون اسقاط نظام القذافي، اذ اعتقدت بان اميركا مسؤولة عن القيادة، ولكنها لم تفعل شيئا كي تمنع ليبيا من الانزلاق الى الفوضى التي تتميز بها اليوم، بعد أن اسقط الزعيم، لانها لا تريد ان تؤيد سياسة غير شعبية، نتائجها مشكوك فيها، سياسة «بناء قومية». ومثلما كتب عنها زلماي خليلزاد، الذي كان سفير الولايات المتحدة في افغانستان واحد الدبلوماسيين الاميركيين الكبار في العقد والنصف الاخيرين، «يوجد فجوة بين اهدافها وتطلعهاتها وبين الوسائل التي اوصت باتخاذها من أجل تحقيقها».
ولكن يحتمل أن تكون الصعوبة لدى كلينتون اكثر جوهرية: فليس واضحا دوما ما هي اهدافها. بمعنى ان لها الكثير من الاهداف، معظمها مهمة، ولكن من الواضح انها لن تتمكن من تحقيقها جميعها. وعليه فانها ستضطر الى تحديد سلم اولويات واضح، والتضحية بالهام من أجل الملح، والتضحية بالمرغوب فيه في صالح اللازم. كوزيرة خارجية، اكثرت كلينتون في الانشغال بمكانة النساء في العالم. هذا بلا شك هدف مهم، ولكن اذا ما استثمرت فيه مقدرات كثيرة فليس مؤكدا ان تبقى ايضا مقدرات لصد الصين ولاحتواء روسيا. كمرشحة تقول انه يجب التحدي بحزم اكبر لوضع حقوق الانسان في الصين، ولكن اذا ما فعلت ذلك فمن المشكوك فيه أن تفوز، مثلما تريد أن تفوز بتعاون صيني لممارسة الضغط على النظام الكوري الشمالي.
حين كانت وزيرة خارجية سعت كلينتون الى تجاوز الجدال الدائم بين من يعتقدون انه مرغوب فيه تفضيل «القوة الصلبة» hard power - اي القوة العسكرية والاستراتيجية – وبين من يعتقدون بان قوة اميركا هي في قوتها «الناعمة» – اي الدبوماسية، الثقافية، القيمية. وعليه فقد اخترعت مفهوما كان يفترض به أن يمثل طريقها، الا وهو «القوة الذكية» smart power؛ مفهوم يبدو جيدا، ومعناه غامض. وقد أدى الى عدة خطوات لاعادة التنظيم في وزارة الخارجية، ولكن ليس الى تغيير واضح يمكن الاشارة اليه، وبالتأكيد ليس لانجازات جوهرية.
كتب جيمز تراوب في مجلة «فورن بوليسي» في واحدة من عشرات المحاولات التي أجريت في الاشهر الاخيرة لتحليل سياسة كلينتون المتوقعة، ان فيها «خليطا غير عادي»: فمن جهة تفكر بالعلاقات بين الدول مثلما فكر فيها وزير الخارجية الاسبق، هنري كيسنجر. تفكير بارد، ذو نزعة قوة، فيه قدر كبير من التهكم الواعي. من جهة اخرى، كتب، تفكر في الدور العالمي لاميركا «تقريبا بالشكل الذي يفكر فيه براك اوباما»، مع أحلام عن التعاون الدولي الذي يوقف سخونة الكرة الارضية، ويحسن وضع حقوق الانسان. لهذه التشخيصيات يمكن أن يضاف بند واحد او اثنين: لقد اثبتت كلينتون بتأييدها تعزيز القوات الذي قرره اوباما في افغانستان بانها تريد أن تفعل الامر الصحيح والاخلاقي، مثل بوش الابن، ولكنه اثبت ايضا – في ليبيا وفي التعزيز البطيء والمتردد للقوات في سورية – أنها تريد ان تضع اهدافا واقعية، غير طموحة أكثر مما ينبغي، مثل بوش الاب.
يمكن لهذا التناقض ان يؤدي الى نتائج من كل الانواع، بما في ذلك في المواضيع المتعلقة باسرائيل. فقد ايدت كلينتون الاتفاق النووي مع ايران، ولكنها تقول انه يجب ان يفرض بتشدد، الامر الذي لا تتشدد ادارة اوباما حسب مكتشفات جديدة، الاسبوع الماضي، في عمله. تؤيد كلينتون «الحفاظ على التفوق العسكري لاسرائيل في المنطقة»، وعلى ما يبدو لن تفكر، مثلما فكر اوباما، اذا كانت اميركا مطالبة حقا بالحفاظ على مثل هذا التفوق. من جهة اخرى تحمل كلينتون شحنة من الالتزام بالمسيرة السياسية التي هدفها اقامة دولة فلسطينية، وهي تحمل شحنة من الشك تجاه الحكومة القائمة في القدس اليوم. وبين كل هذه سيتعين عليها ان تختار ما هو الاهم وما هو الاقل اهمية. بين كل هذه يتعين عليها أن تقرر ما هو العمل «الصلب» وما هو «الناعم» وما هو حقا «الذكي» الذي ينبغي عمله.
كلينتون يدخل المستشفى بسبب الحمى
24 ديسمبر 2024