في خضم التناقضات الأميركية- الروسية الهائلة إزاء الملف السوري، وتدخل بعض القوى المؤثرة في هذا النزاع لجهة صب الزيت على النار وإبعاد أي مقاربة ممكنة لتسوية النزاع، في ظل هذه المفارقات تعود تركيا مرةً أخرى لتطرح موضوع إقامة منطقة آمنة في شمال سورية.
ما الذي جعل أنقرة تفكر في إعادة طرح هذا الموضوع، خصوصاً وأنها قوبلت بالرفض القاطع من قبل الولايات المتحدة الأميركية، فضلاً عن روسيا التي منعتها من التحليق فوق الحدود السورية، على خلفية حادثة إسقاط الطائرة الروسية قبل أكثر من عام.
لم تكن أنقرة تفكر في طرح موضوع المنطقة الآمنة لولا عدة اعتبارات، أولها أن علاقتها الدبلوماسية تحسنت مع روسيا مؤخراً، تزامن ذلك مع التفكير التركي الجدي في إيجاد علاقة مع العراق وسورية مختلفة عن السابق، من حيث تحسينها وتطويرها.
قبل حادثة الانقلاب التي جرت في تركيا منتصف تموز الماضي، تحدث بن علي يلديرم رئيس الوزراء التركي عن نية أنقرة تحسين علاقتها بسورية والعراق، ويبدو أن هذا التصريح كان مرتبطاً بالاستشراف التركي لواقع النزاع السوري.
تركيا بدأت تفكر في إيجاد علاقة متوازنة مع روسيا والولايات المتحدة الأميركية بخصوص المسألة السورية، أضف إلى ذلك أن جملة التحديات الأمنية التي تواجهها، خصوصاً في حدودها الجنوبية، جعلتها تفكر في إعادة النظر في مستقبل علاقتها مع سورية.
ثانياً، يبدو أن تركيا حصلت على الضوء الأخضر من موسكو وواشنطن لتوجيه عملية عسكرية في شمال سورية، تستهدف أولاً منع الأكراد من الوجود في حزام جغرافي يمتد على الشريط الحدودي التركي، وثانياً محاربة «داعش» الإرهابي وإقصاءه إلى جنوب سورية.
لمن يتابع الشأن السياسي التركي، سيلاحظ أن أنقرة التي كانت تشدد على ضرورة رحيل الرئيس السوري بشار الأسد عن السلطة، لم تعد تتحدث في هذا الموضوع، أضف أنها كانت معنية بسقوط مدينة حلب في يد المعارضة المعتدلة، وكانت تدعم الأخيرة للإمساك بهذه المدينة.
قد يكون أن تركيا غضت الطرف عن موضوع الرئيس الأسد ومسألة المرحلة الانتقالية، وأيضاً غضت الطرف عن قصة حلب والسيطرة عليها، مقابل السماح لها بتسيير عملية عسكرية لدفع الأكراد إلى الانتقال من شمال سورية إلى شرق الفرات.
ربما هو اتفاق مع روسيا على أن تدخل تركيا عسكرياً إلى شمال سورية، مقابل تخفيف حدة الخطاب الأردوغاني تجاه سورية، والحال أيضاً أن تركيا التي تشددت مع واشنطن على خلفية ميوعة الأخيرة في موقفها إزاء فشل الانقلاب، حصلت على ضوء أخضر أميركي يجيز لها الدخول في سورية.
إذاً هناك التقاء في المصالح الدولية حول سورية من وراء العملية العسكرية التركية، حيث أن الأخيرة ترى أن الوجود الكردي تحديداً يمس أمنها القومي، على أساس أن هذا الوجود في شمال سورية قد يمتد إلى توسيع الجغرافيا الكردية إلى الخاصرة التركية في الجنوب.
بالنسبة للموقف الأميركي، فإن الذي يهمه في هذا الموضوع هو القضاء على «داعش»، ويرى في الوجود التركي قوة ضاغطة على هذا التنظيم المتطرف، أما روسيا فإن جل ما يهمها وحدة الأراضي السورية، وترى في التوسع الكردي وتنامي قوته، مصدر تهديد لسورية الأسد.
ثم إن النظام السوري الذي يعادي تركيا، يرى في تدخل الأخيرة مصلحة له، ذلك أن تركيزه على محاربة المعارضة المعتدلة والمتطرفة في ذات الوقت، لا تعطيه الزخم العسكري لفتح جبهة أخرى مع الأكراد، وهو بالإضافة إلى تركيا، لا يريد وجوداً كردياً قوياً قد يعكس نفسه على خريطة النزاع والمرحلة التي تليه.
عملياً يجوز القول إن تركيا حققت جزءاً من أهدافها العسكرية في شمال سورية، فقد تمكنت من إقصاء تنظيم «داعش» عن حدودها، وهي تسعى الآن للحد من تدفق المهاجرين السوريين إليها، لكن القلق الأكبر الذي يثير حفيظتها يتمثل في البعبع الكردي.
لهذا السبب عاودت أنقرة طرح موضوع المنطقة الآمنة، ودعا أردوغان نظيره الأميركي أوباما والروسي بوتين في قمة مجموعة العشرين، إلى تفهم الحساسية التركية إزاء الوجود الكردي في شمال سورية، ذلك أن أنقرة ترغب في تصعيد دورها العسكري بهدف منع أي نية لوجود كردي جغرافي متواصل مع أكراد تركيا.
من حيث الواقع فإن تركيا حالياً تقوم بوظيفة الحامي لحدودها، أي أنها تعكس مصطلح «المنطقة الآمنة» على أرض الواقع، غير أنها ترغب في ضوء دولي لتوسيع عملياتها العسكرية في شمال سورية، بحيث تقطع الطريق تماماً أمام أي تواصل كردي، بحزام جغرافي حدودي يمتد طولاً إلى أكثر من 90 كيلومتراً، وعرض في العمق السوري لأكثر من 20 كيلومتراً نحو مدينة الباب جنوباً.
على كل حال، حين طرح أردوغان موضوع المنطقة الآمنة، لم يسمع لا عن معارضة أو موافقة أميركية- روسية، وهو يدرك أن الطرفين لن يوافقا على إقامة منطقة آمنة، وإنما قد يعطيانه الضوء الأخضر للإبقاء على تواجده في شمال سورية بعض الوقت، مقابل دفع بعض الكلف للطرفين.
هذه الكلف تحدثنا عنها آنفاً، وهي تتصل باتخاذ أنقرة موقفاً متوازناً بين كف الأذى عن النظام السوري من أجل تحسين العلاقة مع روسيا، وبين محاربة «داعش» والتطرف لإرضاء الولايات المتحدة، ثم إلى جانب كل ذلك، بدأت تشعر أنقرة أن وجود الأسد في السلطة يصب في مصلحتها.
كيف ذلك؟ تركيا التي تحمست لرحيل الأسد عن السلطة، بدأت تستدرك أن الوجودين الروسي والإيراني لن يسمحا بسقوط النظام السوري، إلى جانب أن وجود وتعدد التنظيمات الإرهابية، وتنامي قوة الأكراد، كل ذلك يخلق ضغطاً على تركيا لجهة القبول بالأسد في السلطة، كونه لا يريد أيضاً «داعش» وأخواتها، ولا انفعالاً كردياً قد يرقى إلى طلب الحكم الذاتي أو الاستقلال عن الدولة السورية.
إذاً يبدو أن سيناريو إقامة منطقة آمنة في سورية، لن يترجم على أرض الواقع بالمعنى الذي تريده تركيا، وإنما سيكون لها تأثير حاضر على الحدود التركية- السورية، ولا أحد يعلم بالضبط ما الذي سيحدث في المشهد السوري، فمن كان صديقك بالأمس صار عدوك اليوم، والله أعلم أن يعود صديقك، فهذه هي حال الدنيا وحال المصالح المشتركة والتقائها.