رغم مرور الساعات ونحن نتجول في ربوع الحصن، أستمع من الحجارة والأمكنة التراثية والأثرية بوحها الجميل تارة، وشكواها من الإهمال والنكران والهجرة تارة أخرى، متجهين إلى العديد من البيوت التراثية أو ما تبقى منها من أطلال، مارين بمضافة آل النصيرات حتى وصلنا إلى بيت يعود بأصوله إلى آل غنما، مقام على مساحة أرض واسعة وبستان جميل، وهو بيت متميز ببوابته الكبيرة على النظام التراثي، ولكن هذه البوابة تميزت بأنها كانت على شكل بوابة داخل بوابة، وبوابتها خشبية تراثية متميزة وبها (خويخة)؛ بوابة صغيرة داخل البوابة الكبيرة لدخول أهل البيت، وعادة تكون مرتفعة عن الأرض وحجمها صغير نسبياً، فهي كانت تعتبر وسيلة دفاعية إن حاول أحد اقتحام البيت منها والبوابة الكبرى مغلقة، وهذه (الخويخات) كانت سبيلنا للدخول لأكثر من بيت مهجور، ولكن بوابته الخارجية ما زالت موجودة، وعلى أعلى البوابة يوجد نقش لأربع أبيات من الشعر التي تشيد بآل غنما وكرمهم، والدالة على الموقع الاجتماعي لأصحاب البيت، إضافة إلى نقش على الحجر المتوسط في أعلى القوس الحجري للمدخل، وهذا النقش يدل على موقع أصحاب البيت الاجتماعي، وهذا البيت المتميز كان به (عِلية) لاستقبال الضيوف، وفي ثلاثينيات القرن الماضي استضاف بريطانيين باحثين في علم الآثار.
وأثناء تجوالنا مررنا على العديد من البيوت التراثية، والتي وجدت على أبوابها يافطات حجرية منقوشة تشير إلى تاريخ البناء، وبعضها قارب المائة عام، وبعضها زاد عن ذلك، ورأيت بقايا عقود لا تزال أقواسها وعقودها قائمة رغم انهيار المباني وتهدمها، والعديد من بقايا البيوتات التي رأيتها تدل من نمط البناء على موقع متقدم لمن أنشأوها، فمن بقايا الأقواس والأدراج ونوعية الحجارة ومساحات البناء وبقايا الأسوار والمساحات المحيطة بها، كانت الدلالات على أصحابها، بينما شاهدت بيوتات أو بقايا بيوتات كانت بين بيوتات متوسطة وبسيطة بنمط البناء، وحقيقة لو كان الوقت يسمح لاستمعت لحكاية كل بيت من هذه البيوت ورويت حكاياتها التي تبوح بها، لكن تاريخ وتراث الحصن مشترك بين أهلها، فأشرت بمقالاتي إلى هذه المعالم البارزة التي جلتها في الحصن بدون انتقاص من حكايات همستها بيوت وأزقة وحجارة أينما تجولنا.
وما أن أنهيت مع مضيفيني، السيد محمد حتاملة (أبو حسين) وابنته الفنانة التشكيلية المتميزة بأفكارها وفنها رنا حتاملة، التجوال في دروب الحصن وعبقها التراثي والتاريخي، اتجهنا إلى مسجد الشهيد صدام حسين، والذي تبرع بتكاليفه كاملة الرئيس العراقي، حيث تبرع بمبلغ ثمانون ألف دينار، وبعد استشهاده قام أهل الحصن بإضافة كلمة شهيد لاسم المسجد، وحسبما أعلمني بعض الأصدقاء أن هذه الخطوة قام بها أهل الحصن بعد محاولات لتغيير اسم المسجد بعد سقوط العراق تحت الاحتلال الأمريكي وبعد إعدام (أبو عدي). والمسجد قائم على مساحة جيدة، ويمتاز بمئذنة جميلة ومرتفعة جداً، وبقبابه البيضاء، ونمط التصميم الجميل للنوافذ والأبواب والديكورات الداخلية، وهو واقع على الشارع الرئيس الواصل باتجاه إربد.
كان الوقت يداهمنا، فكان لا بد من جولة سريعة ابتدائية بأديرة الحصن، فتجولت في ثلاثة أديرة بسرعة في الساحات الخارجية، كي أكون الفكرة الابتدائية استعداداً لزيارة أخرى، وفي جولتي الثانية كان يرافقني صديق الدراسة باسل النمري (أبو شجاع) والعزيز محمد الحتاملة (أبو حسين)، وكان العزيز باسل قد أجرى اتصالاته مسبقاً مع المشرفين على هذه الأديرة حتى يتم فتح أبوابها لزيارتي، ولأتمكن من التجوال فيها، وتوثيقها بالعدسة والقلم، فاتجهنا من بيته بعد اللقاء الأول بيننا بعد أربعين عاماً لم نلتق فيها، وبعد جلسة لطيفة استعدنا فيها ذاكرة الزمن الجميل أثناء دراستنا في جامعة بغداد مع فناجين القهوة، لنتجه مباشرة إلى كنيسة الروم الأرثوذكس (جارجيوس) وهو اسم سيدنا الخضر (عليه السلام)، وبمجرد وصولنا استقبلنا حارس الدير، فتجولنا في ساحاته الخارجية، ومررنا بمقبرة الآباء الذين خدموا في هذا الدير التاريخي، وشاهدت الغرفة التي أصبحت الآن مكتب الكنيسة، والتي درس فيها صديقي باسل النمري في طفولته، كما درس بها الآباء والأجداد، وكل زاوية في الساحات الخارجية كانت تروي حكايات من مروا ومن رحلوا. وبعدها فتح لنا الحارس أبواب الدير لنتجول بحرية كاملة في كل أجزائه، فوجدت أيقونات تاريخية غاية في الجمال ولوحات فنية إبداعية، إضافة إلى لوحات لفنانين عالميين تصور القديسين وسيدنا المسيح (عليه السلام) وسيدتنا العذارء مريم، ومنهم فنان إيطالي اعتكف بالدير عدة سنوات حتى أنجز عملاً متميزاً بالجمال، وكما في كل أديرة الروم الأرثوذكس التي تجولت فيها ووثقتها بعدستي وقلمي، سواء في فلسطين أو الأردن أو سوريا أولبنان، وجدت جماليات خاصة، وأجواء روحانية متميزة.
أنهينا الجولة الداخلية، وخرجنا نجول الساحة الخلفية بانتظار وصول الأب سمعان ليفتح لنا بوابات متحف الدير، وحين وصل سلم علينا بابتسامة مشرقة واستقبلنا في المتحف خير استقبال، وبعد الترحاب أجاب عن بعض استفسارتي وأعطاني الكثير من المعلومات، حيث أن دير جاورجيوس في الحصن أقدم أديرة الأردن للروم الأرثوذكس، ويعود بفترة البناء الى العام 1886، وحسبما تحدث الأب سمعان فالكنيسة الحالية مقامة على آثار كنيسة تعود للفترة الرومانية وجدت آثارها تحت الكنيسة الحالية، وهناك معلومات غير موثقة تشير إلى أن أصل الكنيسة السابقة يعود للقرن الأول الميلادي، وبالتالي تعتبر أقدم أديرة وكنائس منطقة أبيلا بعد خراب بيت المقدس، والكنيسة مبنية كما كل الأديرة القديمة على نظام العقود المتصالبة، وحسب رواية أحد كبار السن فحجارة الكنيسة أتت من غزة في فلسطين.
وهذا الدير ارتبط باسم الأب عيد جوينات، والذي عاش بين 1820 إلى 1927، وكما تحدث لنا الأب سمعان أنه كان له نوع من القداسة، ووردت عنه حكايات كثيرة حتى أن البطريرك حين سمع عن كراماته شك بها واستدعاه، فعلق الأب عيد جبته على خيط الشمس، فآمن البطريرك بقداسته وأقر بها، وكان الناس يتوجهون إليه للعلاج والبركة. وروي عنه أنه ذهب ليطحن القمح، ولم يهتم به أصحاب المطحنة ولم يعطوه أولوية، فتوقفت المطحنة عن العمل، وأن لصوصاً حاولوا سرقة الماشية من عنده، وكلما دخلوا الحظيرة اختفت المواشي عن أعينهم، وحين خروجهم تظهر لهم من جديد.
في متحف الكنيسة شاهدت الجرس الأول للدير، وقد صنع في العام 1885، لكنه تعرض للكسر عبر الزمن فجرى استبداله، اضافة إلى جرن المعمودية الأول، والذي قال عنه صديقي باسل النمري وهو يشير إليه: "هذا الجرن الذي تعمدت به، أليس أجمل من الحالي بكثير؟!"، فضحكنا بمرح. ورأيت قطع تعود للعديد من الآباء الذين مروا على الدير، وأجراس ومحابر وصور ومفاتيح ومباخر وقطع فضية وكتب قديمة وتراث يصعب حصره الآن، وإن كان من المؤسف أنه لم يتم الاحتفاظ بالباب الخشبي التاريخي للدير في المتحف بعد أن تم استبداله، فشكرت الأب سمعان على حسن استقباله وجمال أحاديثه، لنغادر الدير متجهين إلى مبنى الكاريتاس، وكان أقدم دير للراهبات وأقدم مدرسة لطائفة اللاتين، ومن هناك كنا نتجه إلى دير اللاتين.
في دير اللاتين استقبلتنا راهبة بكل الترحاب، ثم حضر الأخ أيمن النمري وفتح لنا أبواب الدير لنتجول برفقته فيه، وهو كما أديرة اللاتين مبني على النظام القوطي، وقد تأسس في العام 1891م، وفي الداخل كانت هناك قاعات رئيسة مبنية على نظام العقود المتصالبة وبجوارها قاعات قائمة على نظام العقود النصف برميلية، وفيها مجموعة جيدة من الأيقونات واللوحات الفنية المتميزة، ولفت نظري بشكل خاص مجموعة من الصور القديمة، والتي تروي حكاية الحصن، وهي ثروة حقيقية حافظت الكنيسة عليها، ولكن بكل أسف كان الأب غير موجود كي يفيدني بمعلومات عن تاريخ الدير ومن أشرف على بنائه، فتجولنا في كل القاعات وأماكن الصلاة والساحات الأمامية والخلفية، وطوال الوقت كانت عدستي لا تتوقف عن التقاط الصور وتوثيق بوح الأمكنة بالعدسة، وغادرنا الدير على أمل أن أتمكن في زيارة أخرى من لقاء الأب وتوثيق الدير بمعلومات أشمل، لنغادر الدير مودعين بالحفاوة نفسها التي جرى استقبالنا بها لنكمل جولة لمناطق وبيوتات تراثية لم أرها في جولتي الأولى، وأنا على قناعة أكبر أنه يجب على مؤسسة إعمار الحصن، والتي يرأسها الآن الصديق الدكتور مازن مرجي، أن تعمل بالتعاون مع متحف الحصن التراثي والأديرة والسكان، على إقامة متحف كبير يضم آثار وتاريخ الحصن وتراثه بالتعاون مع وزارة السياحة والآثار والجهات المعنية، وأن لا يبقى هذا التاريخ متناثراً، وهذا ما سيكون استكمال الحديث في الحلقة الخامسة إن شاء الله.
في هذا الصباح ورغم النسمات الحارة مع موجة الحر التي تجتاح المنطقة، أحتسي قهوتي وأستذكر من على الشرفة في مقري المؤقت في رام الله التي وصلتها وولدي المعز وزوجتي الرائعة ختام للمشاركة بخطوبة مصطفى ابن شقيقي جهاد، أستذكر زيارتي للحصن، وأكتب مع شدو فيروز وفنجان القهوة وهي تشدو، وأشعر الحصن من خلالها تهمس لي: " ترمي إلي سؤالها أترى؟ تدرين من حبي ومن جرحا، لقياه لي كانت على طلل؛ صخر به من أهلي الصرحا، وشغاف عمان تطالعنا؛ قلت البطولة وهجها لفحا، وتزيد سمح هوى حبيبي ما استعلى ولكن إن أثير محا".
فصباحكم أجمل أحبة وأصدقاء ورام الله والحصن حتى نلتقي في الحلقة الخامسة من بوح الأمكنة وبوح الحصن بأسرارها.