الكواكبى .. ليبرالى مجدد واشتراكى مناضل

thumbgen (6)
حجم الخط
 

فى غمرة البحث عن جديد من المفكرين المجددين أو الذين يحاولون أن يكونوا أو أن يزعموا أنهم مجددون ، نسينا أو تناسينا مجددون قدامى ربما كانوا أكثر استنارة وأكثر شجاعة ممن يصرخون اليوم .

وعبد الرحمن الكواكبى هو سليل أسرة من أشراف حلب خاض ضد الاستبداد التركى معارك ضارية، فطاردوه حتى اضطروه إلى الفرار إلى مصر سراً ليصلها فى عام 1899 . وكعادة مفكرى هذا الزمان اتجه الكواكبى فور وصوله للقاهرة إلى قهوة »اسبلينديد« بالعتبة ، حيث كان جمال الدين الأفغانى يلقى محاضراته ويلتقى بتلاميذه . وما أن وطأت قدماه اسبليندد حتى تجمع حوله بقايا تلاميذ الأفغانى ومنهم رشيد رضا ، محمد كرد على وإبراهيم سليم النجار ، طاهر الجزائرى ، وعبد القادر المغربى . وباختصار واصل عبد الرحمن الكواكبى معركة الأفغانى ولكن بأسلوب أكثر استنارة ومواقف أكثر شجاعة ، وقد ألف الكواكبى فيما هو معلوم أربعة كتب »طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد« و »أم القرى« و »العظمة لله« و »صحائف قريش« لكن سوء الحظ مكن أحد جواسيس السلطان العثمانى من أن يستولى مخطوط الكتابين الأخيرين ويهربهما إلى الأستانة واختفى أثرهما ، وتحت اسم الرحالة ك كتب الكواكبى فى جريدة المؤيد سلسلة مقالات عن الحرية والعدل ومواجهة الطغيان والاستبداد ثم جمعها وأصدرها فى كتاب كان غلافه كالآتى

طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد

وهى

كلمات حق وصيحة فى واد

إن ذهبت اليوم مع الريح

لقد تذهب غداً بالأوتاد

ومحررها هو الرحالة ك

ونحاول أن نستعرض بعضاً مما جاء فى هذا الكتاب . ونبدأ باقتباسات لعلها تحدد مسار الكتابة وهدفها :

الإنسان الحر مالك لنفسه تماماً ومملوك لقومه تماماً

الفقر الفاحش سبب سوء التربية والغنى الفاحش سبب سوء التربية

إن النظام الطبيعى فى كل الحيوانات أن النوع الواحد منها لا يأكل بعضه بعضاً لكن الإنسان يأكل الإنسان . ومن غريزتها أن تلتمس الرزق من الله أى من مورده الطبيعى ، والإنسان حريص على التماسه من أخيه

إذا عاش المسلمون مسلمين حقاً أمنوا الفقر وعاشوا عيشة الاشتراك العمومى المنظم الذى يتمنى ما هو من نوعها أغلب العالم المتمدن ، وهو لم يهتد بعد لطريقة نيلها مع أن جمعيات وعصبيات عدة مكونة من ملايين الأشخاص تسعى لتحقيق ذلك باسم [كوميون وينهليست وفبيان وسوسياليست]

المال الزائد عن الحاجة بلاء فى بلاء فى بلاء

وفى بداية الكتاب يسأل الكواكبى عن الداء والدواء ويقدم سلسلة من الإجابات »يقول المادى الداء القوة والدواء المقاومة ، ويقول السياسى الداء استعباد البرية والدواء استرداد الحرية ، ويقول الحكيم الداء القدرة على الاعتساف والدواء الاقتدار على الاستنصاف ، ويقول الحقوقى الداء تغلب السلطة على الشريعة والدواء تغلب الشريعة على السلطة ، ويقول الربانى الداء مشاركة الله فى الجبروت والدواء توحيد الله حقاً« [الرحالة ك طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد الطبعة الأولى مطبعة الدستور العثمانى سنة 1318هـ - صفحة 8] ثم يبدأ الكواكبى فى مهاجمة الاستبداد والمستبدين ويقول »الاستبداد صفة الحكومة المطلقة العنان التى تتصرف فى شئون الرعية كما تشاء بلا خشية من حساب« [صـ10] ثم »والمستبد عدو الحرية وقاتلها ، والحق أبو البشر والحرية أمهم ، والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئاً ، والعلماء هم إخوتهم الراشدون إن أيقظوهم هبوا وإن نادوهم لبوا« [صفحة13] والكواكبى لا يتصور أى قدرة للصفوة على مواجهة المستبد ، بل هم العامة الذين يستطيعون كبح جماح المستبد ، فإن غفلوا عنه منحوه المزيد من القدرة على الاستبداد . ويقول »فمن الأمور المقررة أنه ما من حكومة عادلة تأمن من المحاسبة والمؤاخذة بسبب من أسباب الغفلة إلا وتسارع فتنقلب وتتلبس بصفة الاستبداد وبعد أن تتمكن منه فإنها لا تتخلى عنه« [صفحة 11] ومرة أخرى يعود الكواكبى ليلقى العبء على الرعية أى الشعب فيقول »والمستبد إنسان مستعد بالفطرة للخير أو للشر فعلى الرعية أن تكون مستعدة للتعرف على ما هو الخير وما هو الشر ، وأن تكون مستعدة كى تتبع القول بالعمل ، فالقول الذى ليس وراءه فعل موجه فى الهواء« ويتدارك الكواكبى قائلاً »على أن مجرد الاستعداد للفعل هو بذاته فعل يكفى شر الاستبداد« [صـ13] .
تحدث الكواكبى عن الاستبداد والمستبد وهو يأبى إلا أن يحلل نفسية المستبد وأسلوب التعامل معه وكيفية مواجهته وبأى سلاح ويسأل سؤالا قد لا يخطر على بال الكثيرين «ما الذى يخشاه المستبد وما الذى لا يخشاه» فيقول ويا للدهشة «المستبد لا يخشى علوم اللغة المقومة للسان، إذا لم يكن وراء اللسان حكمة حماس تعقد الألوية أو سحر بيان يحرك الجيوش لانه يعرف أن الزمان ضنين بأن تلد الأمهات كثيرا من أمثال الكميت وحسان ومنتسكو وشيلا، فإذا نبغ فيهم البعض ونال شهرة بين العوام فهو لا يعدم وسيلة لاستخدامهم فى تأييده وتثبيت أمره بمجرد سد أفواههم بلقيمات من فتات مائدة الاستبداد».
ويتبدى الأمر غريبا للغاية فالكواكبى أديب لغوى يتقن الصياغة ويحسن استخدام الألفاظ .. ومع ذلك فهو يحذر مما يتقنه هو وربما لا يتقن غيره اتقانا كافيا. ونعود للكواكبى إذ يسأل عما يخافه المستبد من العلوم ؟ ويجيب ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفية الفعلية ودراسة حقوق الأمم ، وسياسة المدنية والتاريخ المفصل والخطابة الأدبية وغيرها من العلوم الممزقة للغيوم ، المبسقة للشموس والحرقة للرءوس [صـ33] .. والكواكبى بعد أن يستحث العامة [الشعب] على قول لا للحاكم المستبد كسبيل لردعه يعود ليلقى العبء على العلماء «فالمستبد عاشق للخيانة والعلماء عوازله ، والمستبد سارق ومخادع والعلماء منبهون محذرون ، وللمستبد أعمال ومصالح لا يفسدها عليه إلا العلماء» ويعود مرة أخرى ليداعب أحلام العوام (الجماهير) ويدفعهم إلى التحرك .. وكالعادة يسأل «من هم العوام ؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا وإذا خافوا استسلموا ، وهم الذين إذا علموا قالوا وإذا قالوا فعلوا» [صـ34] . والنظام الاستبدادى لا يصلح معه إصلاح فهو فاسد من أساسه ولا حل إلا اقتلاعه من جذوره «فالحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة فى كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطى إلى الفراش إلى كناس الشوارع» [الصفحة 52] . ذلك أن «الوزير الأعظم المستبد، هو اللئيم الأعظم فى الأمة، ثم من دونه من الوزراء يكونون دونه لؤما. وهكذا تكون مراتب لؤمهم حسب مراتبهم فى التشريفات» ومن ثم فإن على الجميع أن يحذروا من الكلمات المعسولة التى يدعى بها دعاة المستبد رغبتهم فى الإصلاح وامتداحهم لما هو قائم بأنه جيد ويحتاج فقط إلى تعديلات طفيفة. ومن ثم فهو يرفض أى فكرة إصلاحية يزعم بها دعاة النظام قدرتهم على تطوير الأحوال بها ويقول «فلا يغتر أحد من العقلاء بما يتشدق به الوزراء والقواد من استنكار الاستبداد والتفلسف بالإصلاح ، وان تلهفوا ونافقوا ، فكل رجال عهد الاستبداد لا خلق لهم ولا حمية فيهم ولا يرجى منهم خير مطلقاً [صفحة 56]، وهكذا فإننا إزاء مناضل غير إصلاحى ويأبى إلا أن يصارع الاستبداد حتى يصرعه ثم يقيم على أنقاضه نظاماً عادلاً وحراً . والعدل عند الكواكبى ليس كلمة عامة ولا مراضاة لطرف مهضوم الحق، وإنما هو وباختصار إزاحة لحكم بأكمله وهو يسمى الأثرياء بالأصلاء فيقول «الإصلاء هم جرثومة البلاد فى كل قبيلة ومن كل قبيل لأن بنى آدم داموا إخوانا متساوين وبناء عليه إذا لم يوجد فى أمة إصلاء بالكلية أو وجد ولكن كان لسواد الناس صوت غالب، أقامت تلك الأمة فعلاً وحكماً لنفسها حكومة انتخابية لا وراثة فيها أصلاً [صـ71] والمعروف أن المستبد يذلل الإصلاء بالترف حتى يجعلهم يترامون بين رجليه ثم يتخذهم لجاماً لتذليل الرعية» [صـ49] وهو يؤكد «الأغنياء هم ربائط المستبد يذلهم فيئنون، ويستدرهم فينحنون، ولهذا يرسخ الذل فى الأمم التى يكثر فيها أغنياؤها، أما الفقراء فإن المستبد يخافهم خوف النعجة من الذئاب [صـ50] . وهكذا يقتادنا الكواكبى باقتدار وربما بدهاء خطوة خطوة نحو هدفه الأساسى وهو «الاشتراكية» فيبدأ كما رأينا بحملة شرسة على الاستبداد ثم يهاجم الاصلاء فهم لجام المستبد لإذلال الرعية ثم الأثرياء ثم ضد الاستغلال .. ويتطور بنا فى عبارة مريرة المذاق فيقول «لقد عاش الإنسان دهراً يأكل لحم الإنسان فعلاً حتى تمكن الحكماء من إبطال ذلك، لكن الاستبداد المشئوم أحيا سنة أكل البشر بشكل أدهي، وأمر ذلك أنه جعل الشعوب طعاماً للظالمين. فقد كان الأولون يأكلون من يأسرون من أعدائهم لكن المستبدين يأسرون شعبهم ويذبحونه قصداً بسيف الظلم ويمتصون دماء حياتهم باغتصاب أموالهم وتقصير أعمارهم باستخدامهم للسخرة فى أعمالهم وباغتصاب ثمرة أعمالهم»[صـ60] .
وهكذا تتطور الكتابة على يدى الكواكبى لتصبح سيفاً يدين الاستغلال الذى يفتح الاستبداد أمامه أبواب الوجود .
وهكذا فالاستبداد يحمى الاستغلال والاستغلال يشد من أزر الاستبداد والصراع ضدهما معاً هو المخرج .
ونواصل .
عن الاهرام