إما النظام أو الإخوان. قلناها مرارا وتكرارا زمن مبارك وما قبله. ستون عاما وأكثر ونحن نقولها: إما النظام أو الإخوان. فى يناير 2011، تعالت الأصوات هادرة: نريد إسقاط النظام، فسيطر الإخوان على الرئاسة ولم يسيطروا على الحكم، ولم يقم نظام، فعدنا نقول نريد النظام وليس الإخوان. مع 30 يونيو رحل الإخوان وعاد النظام. إنما لا الرحيل نفع، ولا العودة نفعت، إذ عدنا نقول إما النظام أو الإخوان.
منذ 1952 تقريبا، يولد النظام فى مصر ومعه قرينه الإخوان، فلا «يناير» كسرت هذه المعادلة ولا «يونيو» غيَّرتها. كيف هذا.. لماذا يبدو الوضع كذلك.. بأى منطق نبقى كل هذه العقود أسرى معادلة إما النظام أو الإخوان؟
لطالما ظلت هذه المعادلة حائلا دون قيام حياة سياسية- اجتماعية طبيعية ومتطورة فى البلاد، كما أحدثت تمزقا داخليا، وكلفت البلاد العديد من الكوارث الوطنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأدت إلى مرورها بدورات متكررة من الأزمات والاضطرابات، وتوفير تربة خصبة لمناخ العنف والإرهاب.
ويلاحَظ أولاً: أن معادلة إما النظام أو الإخوان، وإن وجدت أساسا داخليا، إلا أنها تمثل منذ عام 1952 حتى الآن مصلحة أساسية لقوى دولية وإقليمية تخاصم باستمرار الطموحات الوطنية المصرية فى النهوض والتطور، إذ ظلت منذ نشأتها وتكريسها فى الواقع المصرى ذريعة لمحاولات التدخل الأجنبى فى الشؤون الداخلية للبلد، ووضعه فى حالة استنزاف دائم لقدراته وإمكاناته، وبما يحول بين مصر وما تريد تحقيقه أو بلوغه لنفسها وبنفسها بحرية تامة. الوضع الذى يدرج معادلة إما النظام أو الإخوان، دون حرج، ضمن محاولات الحجر على استقلال مصر الوطنى.
ما بعد 23 يوليو 1952 وصراعهم مع عبدالناصر لجأ الإخوان إلى السعودية والخليج وأوروبا وأمريكا. استوطنوا هناك وفازوا بالمال الوفير والعلاقات الدولية الواسعة المتشابكة والتنظيم العالمى العابر للحدود، ومركز دولى فى «آخن» بألمانيا. ووُضعت الأركان والقواعد والأدوات المادية الأساسية لإدارة معادلة إما النظام أو الإخوان فى مصر، ومن بعد لم يستطع السادات، ثم مبارك، كسر هذه المعادلة ولا النجاة بنفسيهما من غدرها، رغم سماحهما للإخوان بالنشاط فى المجتمع.
ويلاحَظ ثانياً: أن معادلة إما النظام أو الإخوان وجدت ركيزة داخلية لها، وبصورة أساسية، فى العلاقات القائمة بين ثلاث قوى، هى الجيش والإخوان والشيوعيون. وأن سمة هذه العلاقات ليست الصدام والتصارع على طول الخط، بل التعاون والتوظيف المرحلى أيضا.
عام 1952 نجح عبدالناصر فى السيطرة على الحكم بالتحالف مع ضباط إخوان وآخرين من تنظيم «حدتو»، أكبر تنظيم شيوعى فى حينه، ومعروف بعد ذلك كيف دانت السلطة لعبدالناصر وحده، وكيف تكرس نظام حكمه، حتى صار منهاجا يحظى بالاتباع ويُعرف باسم «الناصرية»، وكيف انصاع الشيوعيون لعبدالناصر، بينما خاصمه الإخوان وخاصمهم، ومع السادات، ثم مبارك، بقيت المعادلة سارية المفعول، لدرجة تضخم معها النفوذ التنظيمى والسياسى والاجتماعى الإخوانى. صار الإخوان القوة الثانية فى البرلمان والمجتمع. وصارت أمريكا تطلب علنا «دمج الإخوان» رسميا فى النظام السياسى المصرى.
ما جرى فى يناير 2011 يشبه فى بعض جوانبه ما جرى عام 1952. فى الحالتين يبدو اصطفاف أطراف معادلة إما النظام أو الإخوان واحدا. تعاونوا معا ضد مبارك، ناصريين وشيوعيين و«إخوان»، ثم توافق الإخوان مع المجلس العسكرى الانتقالى، وخاصمهما اليساريون، شيوعيين وناصريين، وعندما حاز الإخوان الرئاسة خاصمهم الجميع.
حتى جاءت «30 يونيو»، فرحل الإخوان كعادتهم إلى مستوطنات الهجرة الإقليمية والدولية، وعاد تدوير معادلة إما النظام أو الإخوان، وتشغيل ماكينات استنزاف قدرات مصر والضغط على أوضاعها.
أخطر ما فى معادلة إما النظام أو الإخوان أنها تقوم على قيام أحد أضلاعها باستدعاء الخارج دوما، أو تشغيل نفسه كحصان طروادة للخارج. الخصومة فى هذه المعادلة وطنية بالدرجة الأولى. السلطة هى النظام. الدفاع فيها عن السلطة والوطن واحد. محورها الأساسى السيطرة على الحكم والمجتمع. طابعها العام النهوض بأدوات الحكم وليس النهوض بالمجتمع، يختلط فيها الداخل بالخارج، والرابح منها دائما هو الخارج.
لماذا لا ترحل معادلة إما النظام أو الإخوان، بل كيف ترحل، وتفك عن رقبة مصر؟
بَعضُنَا يرى حلا فى المصالحة بين النظام والإخوان. أمريكا أيضا تريد هذه المصالحة. إنما ما هذه المصالحة؟
ألا تعنى أساسا تقسيم السلطة السياسية والاجتماعية بين مؤسسات وتنظيم، بينما تظل المؤسسات مؤسسات، والتنظيم تنظيما؟
بأى منطق يكون السلم الأهلى مرهونا باتفاق أو اختلاف المؤسسات والتنظيم، ومَن يحكم ضبط الإيقاع بينهما؟
كيف نكون قد استفدنا إذن بجد من خبرة كل العقود الماضية؟ ما الذى يمكن أن نكون قد استخلصناه إذن من دروس وعِبَر التجارب، تجاربنا وتجارب الآخرين؟
ماذا يمكن أن نسمى العلاقة مع الإخوان فى مرحلتى السادات ثم مبارك، ألم تكن مصالحة إن لم تكن مسامحة؟
لماذا كانت النتيجة النهائية اغتيال السادات وغدر الإخوان بمبارك فى يناير؟
قال مسؤولون أمنيون وقت مبارك بصراحة: خاننا الإخوان. وعدونا عدم الاشتراك فى «يناير» وغدروا بِنَا. من بعدها قال الكل بصوت واحد أيضا: خانونا وخانوا البلد.
مثل هذه المصالحة المطلوبة فى مصر ليست حلا. ليست مصلحة وطنية. طال عمرها أم قصر، يظل مرهونا بالتوازنات.
يعتقد البعض أن مصر فقدت طريق الحرية السياسية منذ عام 1954، وأنها لو وصلت ما انقطع لصححت مسيرتها. ربما يبدو هذا صحيحا جزئيا. إنما الصحيح بصورة تامة أن مصر تفتقد نظم الدولة الحديثة. نظم الحرية الفردية. نظم إدارة المجتمع ذاتيا لشؤونه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والروحية. نظم الدولة الحديثة لا توفر أساسا من أصله لمعادلة من نوع إما النظام أو الإخوان. السلطة فى النظم الحديثة تخضع للمجتمع. يقوم المجتمع بتدويرها وتنظيمها طبقا لمصالحه العامة. تتغير الحكومات. يتبدل الرؤساء. تتغير توجهات الإدارة الحاكمة. وحده النظام العام للمجتمع لا يتغير أو يتبدل ولا يقبل الانقلاب عليه. مجتمع الدولة الحديثة لا حاجة فيه لتنظيم دولة موازية مثل الإخوان.
أغلب الدول الحديثة أيضا لها خصوماتها الوطنية الإقليمية والدولية. من بينها الأكثر حروبا فى العالم مثل أمريكا. إنما لا خ لط فى الدولة الحديثة بين سلطة إدارة الحكم والنظام العام للمجتمع، نظام إدارة المجتمع ذاتيا لمختلف شؤونه العامة. فى الدولة الحديثة لا يكون الحاكم هو الوطن أو الاثنان واحدا.
الدولة الحديثة أيضا لا تمنعها خصوماتها الوطنية- وحتى شن الحروب- من النهوض والنمو والتطور باستمرار. فى الدولة الحديثة لا جور أو تعدى على النظام العام للمجتمع بدعوى أولوية الخصومة الوطنية.
الدولة الحديثة لا تعرف على رأى المثل: «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».