عودة المواجهات: الإخفاق الإسرائيلي

أشرف العجرمي
حجم الخط

تشهد هذه الأيام عودة إلى موجة المواجهات التي تتركز بشكل خاص في محاولات طعن إسرائيليين وإعدامات بالجملة تقوم بها قوات الأمن الإسرائيلية. وهذه الموجة تدحض الرواية الإسرائيلية التي روجتها الأوساط السياسية والتي تقول إن إسرائيل انتصرت على ما يسمونه "الإرهاب" الفلسطيني، وما يعتبره الفلسطينيون مقاومة للاحتلال وممارساته القمعية. وللحق هناك فرق بين ما تراه الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في إسرائيل وبين الخطاب السياسي والإعلامي الذي تروج له المؤسسة الرسمية المدعومة بجهاز إعلامي ضخم يتغاضى عن الكثير من الحقائق.
أجهزة الأمن في إسرائيل كانت تتنبأ باندلاع موجات المواجهة والتصعيد، وهي لا تعرف متى وما هو السبب الذي قد يكون إشارة البدء في هذه العملية. ولكنها كانت تحذر المستوى السياسي بأن الوضع قابل للانفجار بحكم معرفتها بالتوتر القائم في الميدان والإجراءات الإسرائيلية التي تزيد من تفاقمه. وفي الواقع الحكومة الإسرائيلية تعتقد أنها تستطيع إدارة الصراع على نار هادئة لفترة طويلة من الزمن، ما قد يحقق لها تغييراً جوهرياً في الحقائق على الأرض يلغي التفكير الفلسطيني بتحقيق مطلب الحرية والاستقلال من خلال إقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة منذ عام 1967 وفي القلب منها القدس المحتلة، ويضمن لإسرائيل السيطرة على قسم كبير من الضفة الغربية التي تطمح بضمها إليها لأسباب مختلفة.
عودة عمليات الطعن تثبت فشل وعقم التفكير السياسي الإسرائيلي ليس فقط لعدم تنبؤ الانفجار بهذه السرعة، بل وكذلك لأن قادة إسرائيل ليسوا قادرين على فهم الشعب الفلسطيني ويراهنون على عنصر الزمن لتغيير الأهداف والطموحات الفلسطينية، ولم يستوعب هؤلاء حقيقة ربما تكون مرعبة لإسرائيل وهي أن الفلسطينيين إذا فشلوا في تحقيق حلم الدولة المستقلة في حدود عام 1967 لن يتراجعوا ويقبلوا بأقل، بل سيذهبون إلى الأصل والمشروع الوطني الكبير الذي كانت تتبناه منظمة التحرير وتخلت عنه لأسباب واقعية وهو إقامة الدولة الديمقراطية الواحدة على كل تراب فلسطين التاريخية والتي يعيش فيها اليهود والفلسطينيون على قدم المساواة.
 ففكرة التراجع عن الحد الأدنى الذي تم القبول به تحت وطأة وثقل ضغوط الشرعية الدولية التي باتت ترى الحل فقط في تقسيم البلاد على أساس حدود 1967 أي ما قبل الاحتلال، وحتى يحقق الفلسطينيون رغبتهم وطموحهم الأصيل في العيش بحرية وكرامة في دولة مستقلة وذات سيادة مثل باقي الشعوب.
وما تفعله السياسة الإسرائيلية وبالذات عمليات القمع والتنكيل والتهويد التي تحدث أساساً في القدس وبطبيعة الحال في مختلف مناطق الضفة هو تسريع وتائر الانفجار وتحويل الوضع القائم إلى استحالة الاستمرار على ما هو عليه، أي أن تنعم إسرائيل بالهدوء لفترة طويلة تستكمل فيها مخططاتها. والذي يعرفه الإسرائيليون ولا يقدرون خطورته هو فقدان القيادات السياسية الفلسطينية الراهنة القدرة على التأثير على الأجيال الشابة، وخلق ديناميكيات جديدة غير معروفة للكفاح لا تعتمد على الوسائل القديمة التي تقوم على التنظيمات الكبيرة المنظمة والخاضعة لقرارات مركزية. وهذا ليس فقط ينبئ بالفوضى وفلتان زمام الأمور بصورة تجعل إسرائيل تعجز عن التصدي لهذه الظاهرة، وأيضاً بحضور وسيادة أفكار ومواقف قد تراها القيادات الحالية عدمية أو عبثية. ولكن لكل عصر أدواته وأفكاره ولا أحد يستطيع من الآن رسم صورة ما يمكن أن يتطور عن ضعف وتلاشي القدرة على التحكم في الوضع الناشئ والذي يمكن أن ينشأ بعد وقت ليس بالطويل.
حركة الشارع السريعة والمفاجأة يقابلها تكلس وفتور قيادي قاتل، والمراقب لتطورات الأمور سيجد أن قياداتنا غير مستعجلة لفعل شيء وكأننا نعيش في فسحة من الزمن الجميل وأن الوقت يسير لصالحنا وأن الشعب سيحتمل المزيد والمزيد من العذابات والتضحيات.
 وبعيداً عن التصريحات التي أصبحت كالشيكات بدون رصيد، لا شيء يجري على الأرض يؤكد الشعور بثقل الحالة وبالمسؤولية عن شعب يرزح تحت الاحتلال، وفي كل يوم يمضي هناك خسارة كبيرة بشرية ومادية ومعنوية. والأرض تضيع حتى لو لم نفقد حقنا، وحتى لا يكون الكلام عاماً ومجرداً لا يمكن فهم السكوت على الخلافات والانقسامات المدمرة التي نعيشها، وكيف أصبحنا نستمرئ الوضع القائم ونتلاعب بالألفاظ والشعارات، وهكذا نقدم لأجيالنا الشابة مزيداً من الإحباط وخيبة الأمل وندفعها للذهاب إلى خيارات قد تكون ضارة ومدمرة وباهظة الثمن.
وفي النتيجة تخسر القيادة الإسرائيلية بسبب عدم انتهاز الفرصة والذهاب إلى عملية سياسية واقعية تفضي إلى حل الدولتين الذي ينهي الصراع ومراهنتها على عنصر الوقت الذي يقود إلى إدامة الصراع وتعقيده فقط وفي النهاية سيقضي على الحلم الصهيوني في هذه البلاد. وتخسر القيادة الفلسطينية التي لا تقوم بواجبها بتهيئة الظروف لتدخل دولي فاعل من خلال ترتيب الأوراق الفلسطينية باستعادة الوحدة الوطنية بكل معانيها وإقناع المجتمع الدولي بأن الظرف الفلسطيني ناضج لدولة ذات سيادة وقادرة على القيام بواجباتها في تحقيق الأمن والاستقرار في هذه المنطقة بعد تحقيق السلام.