"يعيش جمال عبد الناصر" : ولكن كيف ؟

thumbgen (18)
حجم الخط
 

ما إن يطل سبتمبر من كل عام حتى يضىء القلب بقدرة المصريين على تحويل الخريف الى طاقة أمل قديم وجديد ، أمل فى حياة لائقة .
وما إن يأتى اليوم التاسع من هذا الشهر حتى تمتلئ الذاكرة بتحرك عرابى كى ينهى عصر عبودية المصريين لأسرة محمد على ، وهو اليوم الذى أختاره جمال عبد الناصر ليترجم رفضه لاستعباد الفلاحين فأصدر قانون الاصلاح الزراعى الذى تحولت به خريطة مصر من «أفندية» و«خدم» الى اقتراب من المساواة الانسانية ، فاستحقت حركة الجيش فى 23 يوليو لقب «ثورة» بعد أن كانت مجرد «حركة مباركة» كما وصفها ثوار يوليو ، فشاء طه حسين ابن الصعيد المقهور بفقد البصر المقتحم بقدرة استيعاب التاريخ وتشخيص الحاضر كى يصحح الرؤية لما هو آت ، فسمى طه حسين ما حدث فى يوليو لقب ّ ثورة »، وطبعا دارت الأيام من لحظتها لتؤكد الثورة طريقها الى الديمقراطية الاجتماعية ، ولم يمل جمال عبد الناصر بوجدانه وعقله من البحث عن مساندة لمسيرة العدل الاجتماعي، لكن «فرسان الضجيج السياسي» أكدوا واقعهم كمتنافرين عاجزين عن التوحد تحت راية ايقاف استغلال الانسان لشقيقه الانسان ؛فالتنافر هو ما يجمعهم ، وفى قاع أحلامهم تعلو الرغبة فى تحقيق مكاسب وبراكين كراهية للغير دون قدرة على مد الجسور بين جميع الأطراف ، وفضحهم جمال عبد الناصر وأوضح رؤيته لواقع ومستقبل هذا البلد عبر كتيب صغير شارك فيه محترفون يجيدون قراءة خريطة الكون ، منهم المفكر السياسى الذى راقب حركة القوى المؤثرة فى العالم عبر عمله كمندوب لمصر بالأمم المتحدة د. محمود فوزي، وجاء كتاب «فلسفة الثورة» ليرسم أمام عموم المصريين طريق مصر الى مستقبلها ، وكان لأستاذنا محمد حسنين هيكل فضل صياغة هذا الكتاب الذى بدا كشهادة على عجز أغلب القوى السياسية عن متابعة حركة عموم المصريين فى تأليف زعيمهم الجديد «جمال عبد الناصر»، ومن يقرأ تاريخ مصر جيدا يمكنه أن يرى حقيقة واضحة كأنها قرص رع القادم من غياهب التاريخ ، فحركة عموم المصريين قد تقبل سد فراغ قمة الحكم بأشخاص منهم من يليق بمكانة القيادة ومنهم من لايليق، ولا يعطى المصريون قلوبهم وأحلامهم الا من يتلمسون فيه طاقة وقدرة على حمل الأمانة، سواء أكان اسمه أحمد عرابى أو مصطفى كامل أو سعد زغلول، ومن قبلهم هناك «أحمس» و«حور محب»، وكل منهما كان قائدا عسكريا أنقذ هذا الوطن من احتلال أو تخلف مقصود، الأول استوعب العلم وطبقه فى الحرب، وتفوق فى صناعة تكنولوجيا فى تسليح جيشه فطرد الهكسوس ، ومن يرغب فى متابعة نشأة ورحلة هذا البطل ، يمكنه أن يقرأ كتاب د, عبد العزيز صالح عن التربية والتعليم فى مصر القديمة ليجد فى تفاصيله رحلة أحمس فى دراسة الواقع مع علوم الرياضيات ليصل الى عجلة حربية ترعب الخصم وتطرده، وقد درس أحمس خريطة مصر من أقصاها الى أقصاها ليختار مقاتليه على ضوء حقيقة يتناساها أغلب من يتصدون للعمل العام ألا وهى «أول من يضحى وآخر من يستفيد»، فمن يقدم وجوده كى يحرر وطنا لن تبهره صغائر الأطماع من منصب أو ثروة أو نسب . ومن يتابع رحلة «حور محب» سيكتشف أنه أول من اكتشف ضراوة التجارة بالدين، فقام بتنقية طيبة من الكهنوت وأخذ مما أضافته تل العمارنة من زهد له كبرياء ورفعة العمل من أجل وطن متحرر ، فخرج حور محب بمصر من مستنقع الأطماع الصغيرة بعد أن امتلأ بحقيقة شروط الزعامة ألا وهى «أول من يضحى وآخر من يستفيد».
وماجرى فى مصر القديمة يمكنه أن نرى له تطبيقا على حياتنا المعاصرة ، فلم يكن أحمد عرابى باحثا عن مكانة خاصة بل حرص على أن يكون المصريون أحرارا وليسوا مجرد «عبيد احسان الخديو». وانكسر عرابى بتواطؤ أصحاب الأطماع الصغيرة واتساع هوة العلم العسكرى بعد كسر القوة العسكرية فى نوارين البحرية ، واستمرار تقزيم مصر بحصارها من 1825 الى عام 1840 وليمر قرابة نصف قرن من الترهل الى أن يتحرك عرابى دون استعداد علمى وتكنولوجى لمقاومة احتلال انجلترا لمصر .
وتغرق مصر من بعد ذلك فى دوامات النداءات السياسية بدءا من مصطفى كامل ومرورا بسعد زغلول، وصولا الى جمال عبد الناصر الذى آمن بأنه قادر على أن يكون أول من يضحى وآخر من يستفيد. وقام بالفرز السياسى لكل القوى الموجودة على الساحة ، فأخذ من خطوط أفكارهم ما يرسم خريطة واقع مختلف وليجسد على خريطة الشرق الأوسط أول ديمقراطية اجتماعية أجبرتها الظروف الداخلية والخارجية على أن تؤجل حلم الديمقراطية السياسية لبعض الوقت .
ولكن الأطماع الصغيرة وباء ينخر فى عظام الثورات؛ والاندفاعات العاطفية دون تخطيط دقيق يمكن أن تكسر عنق الحلم، وجاء أضخم انكسار فى حياة عبد الناصر ألا وهو انكسار الوحدة بين مصر وسوريا، فقد ازدحمت أيام الوحدة بأحلام وعجز الواقع والرجال عن وضع خريطة عملية لقراءة الواقع والانطلاق منه الى الأمام. وكان انكسار الوحدة مع سوريا هو لفت نظر عبد الناصر لخطيئة نمت فى اختياراته حيث طفا على سطح العمل العام بثور أهل الثقة والتلون وخيانة مضمون الحلم. ولكن ذلك لم يؤجل بناء السد العالى ولا اتساع رقعة التصنيع ولا توحيد الوجدان المصرى فى التعليم من خلال التربية العسكرية وجدوى المساواة الانسانية بين أبناء الوطن.
وتبع هذا اٌلانكسار الحادث المرعب الذى قضى على رقعة أحلام عبد الناصر وهو «هزيمة يونيو 1967»، فتقزمت حركة عدم الانحياز و علا صوت قتلة محترفين لفكرة القومية العربية ، ولم يعد أمام عبد الناصر الا العودة فى اختيار القادرين على أن يكون كل منهم «أول من يضحى وآخر من يستفيد». فجاء عبد المنعم رياض ليختار المقاتلين لتحرير الأرض التى تم احتلالها ، وقام القريق محمود فوزى بصلب عود كل مقاتل بجديته العسكرية الرفيعة . حدث ذلك بعد أنأمدت الديمقراطية الاجتماعية جيش مصر بمليون مقاتل متعلم.
لكن الاجهاد كان قد أخذ من عبد الناصر كل الجهد لتصعد روحه الى بارئها فى الثامن والعشرين من سبتمبر 1970 ، تاركا ارثا وطنيا لم يسبق لقائد أن ترك مثله لبلاده .
وصدق فيه قول من كان على خصومة معه ثم تصالح لتحقيق نبل استقلال الأرض العربية وهو الملك فيصل بن عبد العزيز الذى قال فى وداع عبد الناصر »رحم الله الرجل فقد أعطى هذه الأمة فكرة عن امكاناتها .
ولكن الورثة للحكم لم يفلحوا فى امتلاك المثالية المتجسدة فى «أول من يضحى وآخر من يستفيد»، ولم يمتلكوا الفهم لقيمة الديمقراطية الاجتماعية وما أضافته من تجانس فى النسيج المصرى الذى جاء بانتصار عسكرى صاعق للعدو، لكن ما حدث بعد الانتصار من أهوال سياسية لم ينتبه لخطورتها السادات الذى انخدع بقفاز الاحتلال منخفض التكلفة ، احتلال يدعى رفعه راية الدين لكنه يبيع الوطن فى سوق نخاسة التبعية .
واذا كان الركود هو سمة عصر مبارك ، فما جاء بعده كان فاضحا لهول التأسلم الذى شاء أن يكون حصان طروادة لقوى التخلف .
ويبقى على السيسى ضرورة الفرز لتكوين كتائب سياسية تؤمن بأن عقيدة الوجود على أرض الوطن هى «أول من يضحى وآخر من يستفيد». وهى التى يجب النظر اليها بقوة وفاعلية، لأنها مازالت هى الحلم القابل للاستمرار؛ بل هى قارب نجاة من أمواج الحصار الخانق المتعدد الأصابع ، أصابع الضجيج الملتهم لثروات الوطن بواسطة رجل أعمال آثروا الثروة على التضحية، وأصابع قصور تكوين طبقة سياسية لا تحركها قوى الخارج . أقول ذلك وأنا أشهد أفول ضجيج أهل الديقراطية السياسية وعلو نداء المطالبين بخطوات  أكثر فاعلية فى طريق احياء الديقراطية الاجتماعية .