سورية.. اتفاق واحد لا يكفي

هاني عوكل
حجم الخط

طرح الاتفاق الأميركي- الروسي حول سورية، الذي دخل حيز التنفيذ في الثاني عشر من شهر أيلول الجاري، تساؤلات عميقة عن مدى نجاحه ارتباطاً بلكمتين مباشرتين وجهتا إلى أصحاب الاتفاق وجهودهم لتثبيت هدنة ولدت ناقصة عقل وإرادة.
عملياً يجوز القول إن الاتفاق لم يحقق السكينة والتهدئة التي تطالب بها موسكو وواشنطن، خصوصاً في فترة الإعلان عن تهدئة محددة بيومين تجدد حسب طبيعة المرحلة، ذلك أن الطرفين الأميركي والروسي اشتكيا من عدم توقف النزاع كما أريد له.
الضربة الأولى التي هزت أركان الاتفاق ومعه الهدنة، حدثت حين أغارت طائرات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية على أفراد وعتاد عسكري في دير الزور، أسفر ذلك عن مقتل عشرات من الجنود والضباط التابعين للقوات الحكومية السورية.
الأميركان برروا فعلتهم هذه في البداية، بأن الهدف كان استهداف تنظيم «داعش»، وأنهم أخطؤوا الظن حين اعتقدوا ان أولئك الأفراد والعتاد تابعون للتنظيم الإرهابي، ثم خرجوا برواية ثانية مفادها أن الأفراد الذين استهدفوا كانوا يلبسون زياً مدنياً ولم يتبين لدى قوات التحالف أنهم عسكريون.
في حقيقة الأمر يصعب التعامل بحسن نية مع هذه التبريرات، فإذا تم وضعها على المجهر والتفصيل في أمرها، يطرح تساؤل هنا: لماذا لم تخطئ الولايات المتحدة من قبل وهذه المرة أخطأت باستهداف جنود تابعين للنظام السوري؟ ثم ألم تتهكم واشنطن على موسكو بأن الأخيرة تفتقد إلى التصويب الدقيق للمواقع السورية، وأن قذائفها تفتقر إلى المعيار الدقيق؟.
الأمر يتجاوز إعلان الخطأ، خصوصاً إذا تم ربط تباين المواقف الأميركية إزاء الملف السوري، من حيث قبول بعض السياسيين وعلى رأسهم وزير الخارجية جون كيري بالاتفاق الأخير ودعمه له، ورفض عدد آخر من السياسيين والعسكريين لهذا الاتفاق وتمنيهم إعلان وفاته في مهده.
الضربة الثانية تتعلق باستهداف أكثر من نصف رتل القوافل الإنسانية الدولية التي كانت تسير بالقرب من مدينة حلب، حيث احترقت حوالي 19 شاحنة، وأدى هذا إلى تجميد العمليات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة، ثم إعادة إطلاقها فيما بعد لكن ببطء شديد مصحوب بالحذر الكبير.
في كل الأحوال قبل هاتين الضربتين ودخول الاتفاق حيز التنفيذ، كان النزاع العسكري متواصلاً بحده الأدنى، دون أن يشكل إحراجاً كبيراً للأميركان والروس، فهم أعلنوا عن وجود اختراقات، لكن بعد الضربتين جرى تكثيف النزاع استثماراً للوقت.
هذا الأمر حدث في سورية لأن التنسيق والتعاون الأميركي والروسي ما يزال غائباً ولم يتم تفعيل هذا البند المرتبط أساساً بمرحلة متقدمة ولاحقة على وقف إطلاق النار، ثم إنه لم يجر إلى هذه اللحظة وضع قائمة موحدة ومعترف بها تفرز بين التنظيمات الإرهابية وتلك المعتدلة.
الصعوبة في المعادلة السورية، أن الطرفين الدوليين على تناقض كبير، فهما يشتغلان في الملف السوري بندية واضحة، وانطلاقاً من المزاحمة على شكل النظام الدولي الجديد، يتبع ذلك أن الأطراف السورية أيضاً في تباين هائل، الأمر الذي يشكل عقبات كبيرة أمام نجاح الاتفاق.
الأولى قبل الإعلان عن اتفاق أميركي- روسي حول سورية، أن يتفق البلدان بينهما على تخفيف اللغة واللغة المضادة، واتخاذ مبادرات حسن نوايا تستهدف تخفيف توتر العلاقات بينهما، ثم بعد ذلك يمكن الذهاب للحديث عن اتفاق حول سورية.
الأمر الحاصل لا يعدو كونه مبارزة بين ملاكمين في حلبة كبيرة، فهذا الاتفاق الأخير يتعكز على عكاكيز كثيرة، أي أنه ولد مشوهاً، لأن هناك ثغرات لم تتم مناقشتها، مثل ضبط الطلعات الجوية في السماء السوري، وتشكيل فريق دولي تتقدمه واشنطن وروسيا، مهمته الأساسية التعاون مع أطراف النزاع من أجل إنجاح الهدنة.
من أجل إنجاح الاتفاق، كان من الضروري في البداية أن تضع الولايات المتحدة وروسيا خطة لاستهداف التنظيمات المتطرفة وفصلها عن المعارضة المعتدلة في مناطق جغرافية محددة، بمساعدة من القوات الحكومية السورية والمعارضة المعتدلة.
حينذاك، يمكن الحديث عن هدنة قادرة على الصمود، في حال مراقبتها والضغط على أطرافها بعدم الاقتتال وإطلاق النار، إذ سيكون من السهولة نوعاً ما معرفة الجهة المُعطّلة للهدنة ومعاقبتها، ومن ثم لن تحدث صعوبات كثيرة في مسألة تمرير المساعدات الإنسانية للمنكوبين.
وسيمكن لاحقاً التدرج في القضايا الإجرائية وصولاً إلى الحساسة، مثل مواصلة الجهد الدولي لكنس «داعش» و»جبهة النصرة» عن الجغرافيا السورية، والذهاب في مفاوضات مباشرة على قاعدة المحاصصة أو التوافق، هذا إن توفرت القناعة بأهمية وضع حد للأزمة السورية التي طالت كثيراً.
غير أن هذا لن يحصل أقله فيما تبقى من ولاية الرئيس الأميركي باراك أوباما، فهو وإن بارك الاتفاق مع روسيا على الهدنة، إلا أنه لن يستطيع فعل شيء الآن خلال الشهر ونصف تقريباً المتبقية، أضف إلى ذلك أن الجمهوريين لا يريدون لإدارة أوباما تحقيق أي مكتسبات من شأنها أن تؤثر على الاستحقاق الانتخابي الرئاسي.
الآن وعلى الرغم من التحركات الدولية والاجتماعات الأخيرة للمجموعة الدولية لدعم سورية، من أجل ضمان وقف إطلاق النار، إلا أن هذه الجهود لم تكلل بالنجاح في ظل تواصل النزاع العسكري، ذلك أن الاتفاق الأميركي- الروسي الأخير بحاجة إلى إعادة اتفاق.
صحيح أن أمر النزاع متروك في الأساس للقطبين الدوليين واشنطن وموسكو، غير أن الأزمة السورية تحتاج إلى تضافر مجموع الجهد الدولي وانخراط مختلف القوى المؤثرة في النزاع السوري للاتفاق على وقف إطلاق النار ووضع آليات لاستكمال المسار السياسي.
الاتفاق الأخير مصيره إلى «الثلاجة» شأنه شأن اتفاق شباط الماضي، ما لم تتغير الإرادة السياسية من عقلية اتفق ثم عرقل، إلى عقلية تقوم على تفكيك الأزمة عبر إيجاد حل خلاّق لها، ويخشى أن استطالة النزاع قد تأخذ سورية إلى ما عانت منه ألمانيا بعيد الحرب العالمية الثانية من تقسيم شرقي وغربي، أو ما أدى إلى خلق كوريتين من رحم الجغرافيا الواحدة والتاريخ الواحد.