من بين مختلف المبررات التي قدمت دفاعًا عن مشاركة الرئيس في جنازة شمعون بيريس، وهي قليلة جدًا، مقابل الانتقاد الواسع المحقّ لها؛ هناك رأي يستحق التوقف عنده، ويقول أصحابه إنه كان من الأفضل أن يشارك الرئيس في الجنازة بعد أن تحولت إلى حدث سياسي كبير بإعلان عدد كبير من الرؤساء والمسؤولين على امتداد العالم عزمهم المشاركة، لأن غيابه سيجعله يخسر، مع أن حضوره لن تترتب عليه أية مكاسب.
نقطة ضعف هذا الرأي المتزن أنه لا يريد الاعتراف بأن نهج المفاوضات الثنائية، والمراهنة على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي من دون إمساك أوراق القوة والقدرة على مواجهة السياسة الإسرائيلية، وما ترتب عليها من احتلال واستيطان ومجازر وعدوان وعنصرية؛ أدى إلى خسارة الفلسطينيين كل شيء تقريبًا، إذ لم يعد هناك ما يخشون خسارته، كما أن سياسة إبداء حسن النوايا، وإثبات الجدارة، والتعامل مع إسرائيل كجار وشريك سلام وليس عدوًا، وتقديم التنازلات؛ لم تؤد إلى شيء سوى إلى فتح شهية إسرائيل للحصول على المزيد من التنازلات.
ويعكس هذا النهج المستمر الذي أدى إلى المشاركة في الجنازة استمرار السياسة المتبعة فلسطينيًا وعربيًا، التي تظهر من خلال قيام الحكام بإعطاء كل الاعتبار لردة فعل العالم على أفعالهم، ويهملون كليًا ردة فعل شعوبهم، مع أن رضا شعوبهم أو غضبها عليهم هو مصدر قوتهم ومنحهم الشرعية أو سحبها.
أعتقد أن عدم المشاركة كانت ستعطي رسالة قوية بأن القيادة الفلسطينية جادة في التخلي عن النهج الذي سارت عليه منذ «مؤتمر مدريد»، مرورًا بأوسلو، وصولاً إلى سياسة البقاء والانتظار الحالية.
كما أن المعارضة الواسعة للمشاركة رسالة مدوية مفادها أن الشعب الفلسطيني بالرغم من الواقع السيئ والإحباط متمسك بكرامته وحقوقه، ومصمم على الدفاع عنها، وهذا هو مصدر قلق إسرائيل على مستقبلها رغم نجاحاتها الباهرة.
لن أردد في هذا المقال ما قيل خلال الأيام الماضية لإثبات أن شمعون بيريس لم يكن رجل سلام رغم حصوله على جائزة نوبل للسلام، فهذا مثبت بعشرات الدلائل التي تؤكد أن يدي بيريس مُضَرّجتان بالدماء الفلسطينية والعدوان، وأنه رجل حرب، فهو ثعلب إسرائيل، وما يميزه عن اليمين واليمين المتطرف أنه «يعطيك من طرف اللسان حلاوة» ويفعل ما يفعله اليمين وأسوأ، أي يضع السم في الدسم، لذلك فهو أخطر.
فهو قال مرة من حق الفلسطيني أن يحلم بإحياء ذكرى النكبة والعودة والاستقلال وغيرها، ولكنه يفعل كل ما يستطيعه لعدم تمكينه من تحقيق هذا الحلم.
ما سربته الصحافة الإسرائيلية بعد وفاته (إن صح، وهو على الأغلب صحيح) عن عرضه أو توصله إلى اتفاق مع الرئيس (أفشله نتنياهو) على إقامة دولة فلسطينية مؤقتة، تحتفظ فيها إسرائيل بالكتل الاستيطانية الكبيرة، أما بقية المستوطنات فتبقى ضمن نطاق الدولة الفلسطينية، مع بقائها تحت السيادة الإسرائيلية، على أن تحتفظ إسرائيل بحق الدخول إليها أسوة ببقية «الأراضي» الإسرائيلية، يثبت ما ذهبنا إليه من براعة بيريس في تمرير وتحقيق أهداف إسرائيل بعد تغليفها بغلاف جذاب.
إن مثل هذه الأفكار التي تخدم مصلحة إسرائيل مقابل ظهور بيريس في نفس الوقت بمظهر الباحث عن السلام، تعكس شخصيته التي تولي الأهمية للحفاظ على صورة جيدة لإسرائيل أمام العالم.
فهو يعطي أو يحاول أن يعطي شيئًا، وهو يكون عادة مجرد فتات، مقابل الحفاظ على المشروع الاستعماري الاستيطاني، وإبقاء إسرائيل دولة قوية ومتفوقة، ويهودية نقية قدر الإمكان من الأغيار.
هذا الأمر طبيعي، فبيريس صاحب نظرية إيجاد الشرق الأوسط الجديد، الذي يجمع فيه العبقرية اليهودية مع رأس المال واليد العاملة العربية.
وهو الذي دافع دائمًا عن التسوية الإقليمية، وما يسمى «الخيار الأردني».
وهو أيضًا صاحب خطة «التقاسم الوظيفي»، وما يجري حاليًا تجسيد لها بشكل أو بآخر.
وما يتم تداوله خلال هذه الفترة من حلول إقليمية تجمع إسرائيل مع الدول العربية على حساب الفلسطينيين وقضيتهم هو صاحب براءة الاختراع لها.
مع أهمية ما يعبر عنه الغضب الشعبي العارم على المشاركة في جنازة بيريس التي لم يشارك فيها الرئيس المصري والعاهل الأردني رغم أن بلديهما يرتبطان بمعاهدتي سلام مع إسرائيل، إلا أن الأَولى بالغضب والاهتمام وما يستدعي العمل أكثر لإحباطه هو ما يجري من تخطيط يرمي إلى تصفية القضية الفلسطينية في الحد الأقصى، وإغلاقها أو تجميدها في الحد الأدنى، بما يؤدي إلى تصفيتها في النهاية، كما يظهر في ملامح عودة الوصاية العربية والإقليمية التي تشمل إسرائيل. طبعًا، فهي بداية الغيث.
إن إحباط هذه الخطة يكون بترتيب البيت الفلسطيني على أسس وطنية واقعية، تحفظ الحقوق، وتمنح القدرة على الحركة، وبما تجسده من ديمقراطية توافقية ومشاركة سياسية حقيقية لكل ألوان الطيف السياسي التي تقبل بمبدأ المشاركة.
في الواقع لا يمكن تجاهل ما سبق والتركيز بدلا من ذلك على تبرير المشاركة في جنازة بيريس من خلال تشبيهها بمشاركة وفد فلسطيني رفيع المستوى في جنازة إسحاق رابين، بالرغم من كل ما قيل سابقًا عن رفض تلك المشاركة في حينها، التي تغيب عنها الرئيس القائد ياسر عرفات، إذ إن هذه المشاركة أسوأ بكثير، لأن رابين اغتيل على يدي يهودي متطرف لاتهامه بأنه يريد التفريط بأرض إسرائيل.
وفي ذلك الحين كانت ما تسمى «عملية السلام» في ذروتها، وكان وهم الوصول إلى اتفاق نهائي بانقضاء الفترة الانتقالية لا يزال مسيطرًا على النخبة الحاكمة فلسطينيًا، ومتأثرًا به بين أوساط واسعة من الفلسطينيين.
أما الآن، فحتى الرئيس أبو مازن صاحب خيار المفاوضات إلى الأبد، وأن البديل عن المفاوضات إلى الأبد المزيد من المفاوضات، أصبح مدركًا عدم إمكانية بقاء الوضع على ما هو عليه.
وقد هدد مرارًا بالخروج على هذا الواقع، مع أنه لم ينفذ تهديده رغم أن الوقت من دم وحقوق والتاريخ لا يرحم.
إن توظيف المشاركة في الجنازة في سياق المزايدات والمنافسات والصراع على القيادة والتمثيل للشعب الفلسطيني، في ظل تعمق الانقسام عموديًا وأفقيًا، لا يساعد على حماية القدس والقضية وخيار المقاومة كما يدعون، وإنما أقصر طريق لوقوع الفتنة التي ستحرق كل شيء إن وقعت في فلسطين.
ولكم ولنا جميعًا عبرة مما يحدث في سوريا وغيرها من بلدان عربية، وهي خير مثال إلى أين يمكن أن تصل الأمور إذا لم نتعظ ونأخذ العبرة قبل فوات الأوان؟
المشاركة في الجنازة خطأ فادح، ويجب التراجع عنه، والأهم فيه هو دلالاته، وما يعكسه من استمرار الحنين إلى استئناف ما يسمى «عملية السلام» التي ماتت منذ زمن طويل، وإكرام الميت دفنه، ولكنهم لا يريدون دفنه حتى يستمر الوهم الذي يضلل الفلسطينيين والعرب ويمنعهم من اعتماد خيارات جديدة قادرة على تحرير الوطن والمواطن.
الاحتلال يعتدي على جنازة الشهيد لبيب ضميدي في بلدة حوارة
06 أكتوبر 2023