من يتابع ردود الفعل، المتعلقة بمشاركة الرئيس محمود عباس في جنازة شمعون بيريس، يدرك بأنه ثمة ما يشبه الإجماع الشعبي ضد هذه المشاركة. ليس غريباً ذلك، فهنالك أزمة في التفاوض الفلسطيني - الإسرائيلي وصلت حد الجدار، وهنالك في الذاكرة الفلسطينية والعربية، فيما يتعلق بشمعون بيريس، وما قام به منذ بداية حياته السياسية، ما يعزز موقف العداء ضد هذا الرجل.
في الذاكرة الشعبية، ما يساعد على بروز هذا الموقف المعارض، لمشاركة الرئيس في هذه الجنازة. لعل المتابع للشؤون الإسرائيلية، وما تكتبه الصحافة العالمية والدولية، ما يفيد في إيضاح حقيقة ما جرى، وهل كانت هذه المشاركة، مشاركة ضارة من الناحية السياسية، ام هي عكس ذلك تماماً.
أبرز النقاط التي يمكن استخلاصها، بما تتداوله الصحافة الإسرائيلية والدولية هي:
* أثارت مشاركة الرئيس في جنازة بيريس أوساط اليمين المتشدد في إسرائيل، ووصفته «بالمشجع» على القتل والإرهاب، وبالتالي لا تجوز مصافحته من رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو، وبأن مشاركته في الجنازة، قامت «بتقديمه وكأنه رجل سلام».
* ظهر الرئيس في مظاهرة سياسية، بأنه رجل سلام حقيقي، ظهر شجاعاً شجاعة نادرة، قل نظيرها، كشريك في السلام، لا يقاطعه ولا يبتعد عنه قيد أنملة.
* حظيت زيارة الرئيس باهتمام إسرائيلي ودولي، ولم تبالغ بعض الصحف، بأنه كان محور المظاهرة السياسية - جنازة بيريس - وبأنه كان موضع الاهتمام الأول.
* جاءت مشاركة الرئيس على أعتاب المؤتمر الدولي للسلام، ليؤكد مجددا، بأن الفلسطينيين، لا يزالون شريكا مؤهلا في عملية السلام.
هذه هي النقاط المركزية، لمشاركة الرئيس في جنازة بيريس، وبالتالي، فإن هذه المشاركة مثلت مشاركة سياسية، شجاعة وناجحة، بالمقاييس كافة.
قد يقول قائل، مددنا يدنا للسلام طويلا، ولم نلق سوى التعنت الاسرائيلي وادارة الظهر.. هذا صحيح، لكن الاصح، اننا في حالة اشتباك سياسي مع اسرائيل، وفي هذه الحالة، لا يجوز الاستنكاف او الانسحاب من المعركة، حتى آخر المشوار.
تذكرني مشاركة الرئيس في جنازة بيريس، بموقف الزعيم القبرصي، مكاريوس، عندما قامت تركيا باحتلال الجزء الشمالي من جزيرة قبرص. كان موقفه حكيما للغاية ويتلخص: المعركة مع تركيا، هي معركة سياسية، ولا يجوز استخدام السلاح بها، نحن القبارصة ضعفاء عسكريا وتركيا قوية. الاشتباك العسكري، سيخسرنا سياسيا - دبلوماسيا، وسيجعل من جزيرة قبرص كلها، ساحة قتال، ما سيخسرنا السياحة أولاً، وكافة مناحي الاقتصاد.
تمرد عسكريون على قرار مكاريوس، ومنهم قادة معروفون، في مرحلة التحرر الوطني القبرصي من ربقة الاستعمار .. فما كان من مكاريوس، سوى اعتقالهم، وتقديمهم للمحاكمة.. وفي نهاية الأمر، اعترف العالم كله، بقبرص اليونانية، في وقت لم يعترف بالقطاع التركي في قبرص، سوى تركيا وبنغلادش. ازدهرت قبرص اليونانية وقويت، وتعاظم دورها، وهزمت تركيا في قبرص.
أحد مسؤولي الخارجية القبرصية، كان يستذكر هذه الأيام، ويحدثني بحرارة .. وفي نهاية كلامه قال: السياسة هي فن الممكن، وشجاعة اتخاذ القرار .. ولا يمكن للسياسة أن تكون بما معناه «ما يطلبه الجمهور».
سيكون للزيارة اثرها السياسي في المستقبل، بل في المستقبل القريب، وعلينا التريث، رغم حرارة مشاعرنا الملتهبة!!
رسالة إلى السيد الرئيس أبو مازن
28 نوفمبر 2023