غاز الكيان ومصادرة القرار الشخصي..!

thumbgen (56)
حجم الخط
 

 

 

 

قبل أيام، أطفأ قطاع كبير من المواطنين الأنوار ساعة واحدة، تعبيراً عن رفضهم شراء غاز الكيان العدواني في فلسطين، واستجابة لحملة "غاز العدو احتلال". لكن هذا هو أقصى ما يستطيع الفرد فعله كما يبدو، للتعبير عن رفضه للصفقة وإجباره على المشاركة فيها عملياً، لأن الناس "ممسوكون من اليد التي توجِعهم". فبينما يستطيع رافض التطبيع اختيار عدم شراء المانجا التي ينتجها المحتلون مثلاً (إذا لم يغشوه ويخفوا عنه المصدر)، فمن شبه المستحيل اختيار عدم شراء الكهرباء، مع ضرورتها وتعذر البديل.
هكذا يجد مُقاطع الاحتلال ورافض التطبيع نفسه مجرداً من حق الاختيار والوفاء لمبدئه وعاطفته، في شأن ينبغي أن يكون شخصياً ومبرراً بكل الأسس الوطنية والأخلاقية والإنسانية والقانونية. وفي النهاية، سوف يدفع المواطنون 10 مليارات دولار ثمناً لشيء هو في الأساس بضاعة مسروقة منهم. وسوف يدفعونها وهم يعرفون أن نقودهم ستساهم حتماً في إدامة كيان الاحتلال العدواني وتسليحه للمزيد من قتل الفلسطينيين وقهر إرادة المواطنين العرب.
من المفارقات أن يفرض الاتحاد الأوروبي على واجهات البَيع في بلدانه وضع شاخصة "ليبل" تميز منتجات المستوطنات في فلسطين، لكي يتيح لمواطنيه خيار مقاطعة هذه البضائع بوصفها من إنتاج كيان احتلال غير مشروع. وقد اختار مشرعو "الاتحاد" إعلام المستهلكين هناك عن المصدر حتى لا يغشوهم، ويجنبوهم احتمال المشاركة في تمويل احتلال مُدان وخارج على القانون وهم لا يعلمون. فماذا عن الذين يعلمون، لكنهم لا يختارون؟ لا حصر في الحقيقة لعدد الأفراد والمؤسسات التي اختارت عدم التعامل مع كيان الاحتلال تجارياً وثقافياً وعلى كل صعيد، استجابة لدواعي الأخلاق والإنسانية والقانون والضمير، وحيثُ يحتَرم خيارهم في كل مكان.
ما يحدث للمواطن المُجبر على شراء سلعة العدو شبيه بما فعله المرابي اليهودي "شيلوك" في "تاجر البندقية"، الذي استغل حاجة أنطونيو للمال وغياب البديل، ليشترط اقتطاع رطل من لحمه إذا عجز عن السداد في الموعد. وهكذا، يقال لمستهلك الكهرباء التي تحتكرها جهة وحيدة بلا بديل: سوف تشتري سلعتنا بشروطنا أو عش في الظلام. ويدفع صاحب الحاجة وهو يعرف أن ما يُؤخذ منه بلا اختيار يذهب إلى قتلَة الأطفال. ولا يُفرق ذلك كثيراً عن اقتطاع أجزاء من لحمه الحيّ.
من الغريب أن تُصادر اختيارات الأفراد إلى هذا الحد في مكان مواطنوه أكثر الناس ارتباطاً بالقضية الفلسطينية ومعاناة من كيان الاحتلال على وجه الأرض. ومن الغريب تعميق شعور المواطن العادي بالتهميش وتجاهل رغباته في أوقات مضطربة وضاغطة جداً في المنطقة. وحسب ما نعرف، فإن غاز الاحتلال ليس البديل الوحيد والوجودي للبلد. وأياً كانت الضغوط، فإن الخيار يجب أن يكون واضحاً عندما يتعلق بمسألة مثل غاز العدو، حيث لا تخفى اتجاهات قطاعات يعتد بها من المواطنين على الأقل. فإذا لم تُحترم رغبات هؤلاء، فرغباتُ مَن هي التي يجب أن تُحترم؟
اشترى صاحب محل أعرفه ذات يوم بضع "بطانيات" من بائع متجول، لتعتقله الشرطة في نفس اليوم وتصادر بضاعته وتغلق محله، لأنه اشترى -حتى لو بلا عِلم- من سارق وخارج على القانون. وتطلب الأمر الكثير من الجهد للإفراج عنه، بعد إقناع الشرطة بأنه لا يعرف أن البضاعة مسروقة. ولو تبين أنه اشترى من المجرم السارق وهو يعرف، لما أنقذه شيء من الإدانة والسجن. وليس خروج كيان الاحتلال الصريح على كل قانون وعرف مجرد شبهة أو اتهام عاطفي، وإنما حقيقة مسجلة في أوراق الأمم المتحدة وموثَّقة في قراراتها. أي سبب أوضح من ذلك لتبرير عدم الرغبة في التعاون معه أمام أي جهة في العالَم، وهو المستمر في مخالفة القانون وارتكاب جرائم الحرب والاحتلال بمعرفة الجميع؟
قد يستطيع المرء تفهم الخيارات السياسية للدول على أساس التوازنات والبراغماتية. لكن من الصعب تفهم أن تعني القرارات مصادرة القرارات الفردية والشخصية لمواطنيها، والمبررة بكل الأسس المشروعة، خاصة في زمن إعادة تعريف الحريات وإصلاح الاختلالات. وبكيفيات صفقة الغاز، لم يعد شيء بحجم التطبيع مع كيان الاحتلال، بل ودفع النقود له، قراراً شخصياً. وسوف يدفع الرافض والقابِل جزءاً مما كسبوه بالعرق والشقاء، بالتحديد لصانع الكثير من شقائهم، بلا لزوم ولا ضرورة!

عن الغد الاردنية