الأسطورة أصلها و غايتها و علاقتها بالرمزية و أسطورة الأينوما ايليش

rayman-legends-wallpaper-3-e1439807524513
حجم الخط

ان الإنسان دائب البحث لا يهدأ في مستقر و الفكر الإنساني في وثبته الدائمة لا يقف عند اطار معين ، فبعد أن كانت الأسطورة الإطار الأسبق و الأداة الأقدم للمعرفة و الكشف و الفهم في القوى البدئية الفاعلة وكيفية عملها و تأثيرها و ترابطها مع عالمنا و حياتنا و القالب الذي يضع الوجود في ميزان المعقول الذي يقنع به الانسان و يسلم إليه ، أصبحت الأسطورة متهاويه تحت مطارق الفلسفة و تجرع سقراط السم جزاء اجترائه على آلهة اليونان ، و قد أدى تبلور المناهج العلمية مع مطلع العصور الحديثة إلى الإزدراء الكامل للأسطورة و إنزالها إلى مرتبة الحكاية المسلية، إلا أن القرن التاسع عشر في أوروبا جلب معه ثورة فنية و جمالية أعادت للأسطورة رونقها كشكل فني تعبيري من أشكال الفلكور و الأدب الشعبي ، فما لبث الرومانتيكيون أن مشوا خطوات أبعد في النظر إلى الأسطورة فاعتبروها اصلاً للفن و الدين و التاريخ ، حتى أن العلوم الإنسانية اتجهت إلى الأسطورة لتبحث خلف الشكل الظاهر للأسطورة عن رموز كامنة و معانٍ تُعين على فهم الإنسان و سلوكه و حياته الروحية و النفسية و آليات تفكيره و عواطفه و دوافعه في مختبرات علوم الإجتماع و النفس و الأنثروبولوجيا.

و يقدم لنا توماس بوليفنش أربع نظريات في أصل الأسطورة لخصها فيما يلي:

الاولى دينية ، تقرر أن حكايات الأساطير كلها مأخوذة من الكتاب المقدس مع الإعتراف بأنها غيرت أو حرفت ، و من ثم كان هرقل اسماً آخر لشمشون المارد دبوكاليون ابن بروميشيوم الذي انقذ زيوس مع زوجته من الغرق فوق أحد الجبال هو نوح و هكذا.

والثانية تاريخية ، تذهب إلى أن أعلام الأساطير عاشوا فعلاً و حققوا سلسلة من الأعمال العظيمة و مع مرور الأيام اضاف اليهم خيال الشعراء ما وضعهم في ذلك الاطار العجيب الذي يتحركون فيه.

و الثالثة رمزية ، و تقوم على أن كل أساطير القدماء لم تخرج عن أن تكون في شتى أشكالها الدينية و الأخلاقية و الفلسفية و التاريخية مجرد مجازات فُهمت على غير وجهها أو فُهمت حرفياً و من ذلك ما يُقال عن ساترون يلتهم أولاده فقد أخذه الاغريق و إذا كرونوسا أي الزمن يأكل أي شيء يوجد.

والرابعة طبيعية ، وبمقتضاها تشخص عناصر الكون من هواء و مار و ماء و تراب ، أو تتحول إلى كائنات حية أو تختفي وراء مخلوقات خاصة و على هذا النحو وجد ازاء ظاهرة طبيعية – ابتداء من الشمس و البحر حتى أصغر مجرى ماء – كائن روحي.

إن الأسطورة تُستمد من الطقوس فبعد مرور زمن طويل على ممارسة طقس معين و فقدان الإتصال مع الأجيال التي أسسته يبدو الطقس خالياً من المعنى و من السبب و الغاية و تُخلق الحاجة لأعطاء تفسير له و تبرير و هنا تأتي الأسطورة لإعطاء تبرير لطقس مبجل قديم لا يريد أصحابه نبذه أو التخلي عنه.

إلا أن عالم الانثروبولوجيا الشهير مالينوفسكي يعارض هذا الإتجاه بقوله أن الأسطورة لم تظهر استجابة لدافع المعرفة و البحث و لا علاقة لها بالطقس أو البواعث النفسية الكامنة بل هي تنتمي للعالم الواقعي و تهدف إلى تحقيق نهاية عملية فهي تُروى لترسيخ عادات قبلية معينة أو لتدعيم سيطرة عشيرة ما أو نظام اجتماعي ما و هذا هو سبب نشأتها و غايتها.

أما الأسطورة لدى فرويد هي مشابهه للحلم من حيث آلية العمل و الرموز وكلاهما نتاج العمليات النفسية اللاشعورية وكلاهما تقع أحداثه حرة خارج قيود و حدود الزمان و المكان و البطل في الاسطورة و الحلم يخضع لتحولات سحرية ويقوم بأفعال خارقة وكلاهما انعكاس لرغبات و أمانٍ مكبوتة تنطلق من عقالها بعيداً عن رقابة العقل الواعي .

لكن أحد تلامذة فرويد و هو اريك فروم في كتابه اللغة المنسية قدم دراسة عميقة للأسطورة منطلقاً من فكرة فرويد عن العلاقة بين الأسطورة و الحلم مع مخالفته في النظر للأسطورة و الحلم على أنهما نتاج العالم اللاعقلاني فالعقل في حالة الحلم إنما يعمل و يفكر ولكن بطريقة أخرى و لغة أخرى ، فالنوم دعوة لتأمل من نوع خاص يستخدم لغة خاصة هي الرمز فهو انفلات من هم التحكم بعالم المادة و تفرغ للذات يجعلنا أكثر شفافية و حساسية فتغدو معرفتنا بأنفسنا أكثر وضوحاً و صدقاً و حكمه ، فحالة السبات هي القطب الثاني لوجودنا في مقابل حالة اليقظة و ليست كَماً زمنياً معطلاً للراحة ، و لغة الرمز هي اللغة التي تنطق عن الخبرات و المشاعر و الأفكار الباطنة كما تنطق لغتنا المحكية عن خبرات الواقع مع فارق يكمن في شمولية لغة الرمز و عالميتها و تجاوزها لفوارق الزمن و الثقافة و الجنس .

ان الأسطورة نظام فكري استوعب قلق الإنسان الوجودي و توقه الأبدي لكشف الغوامض التي يطرحها محيطه و الأحاجي التي يتحداه بها التنظيم الكوني المحكم الذي يتحرك ضمنه ، و يمتزج تعبير الأسطورة في أذهان الكثيرين بتعبير (الخرافة) و (الحكاية الشعبية) رغم البعد الشاسع بين هذه النتاجات الفكرية الثلاثة فالخرافة حكاية ملأى بالمبالغات و الخوارق إلا أن أبطالها الرئيسيين هم من البشر أو الجن و لا دور للآلهه فيها ، أما الحكاية الشعبية فهي كالخرافة لا تحمل طابع القداسة و لا يلعب الآلهه أدوارها كما أنها لا تتطرق كما هو شأن الأسطورة إلى موضوعات الحياة الكبرى و قضايا الإنسان المصيرية بل تقف عند حدود الحياة اليومية.

و من أهم الأساطير التي وصلتنا نحو 3000 ق.م هي اسطورة ملحمة الأينوما ايليش البابلية : قصيدة خلق الآلهه و الكون و الإنسان و هنا سأعرض بعض التعقيبات حول الألواح السبعة لهذه الملحمة حسب الباحث فراس السواح :
– الصراع بين المعسكر الذي تقوده تعامه و المعسكر الذي يقوده مردوخ لم يكن الا تمثيلاً للصراع بين ثقافتين متمايزتين ، ثقافة مركزها المرأة و أخرى مركزها المجتمع و تكريساً للثقافة الأبوية الطالعة .

-أن بناء الآلهه لبابل لم يكن إلا رمزاً لشروع الإنسان في بناء حواضره.

-يمثل صراع مردوخ ضد تعامة على مستوى الأسطورة صراعاً آخر يقوده الفرد على المستوى النفسي ضد الإعتماد على الأم نتيجة ما يمثله هذا الاعتماد من اتكاليه و تفكك في بنية الشخصية ، حتى يغدو قتل الأم شدة اكتمال الشخصية و هذا مافعله مردوخ في الملحمة.

-الملحمة تعد وسيلة لنشر الديانة البابلية و تثبيتاً لعبادة الهها مردوخ و تبريراً و ترسيخاً لطقس قديم و هو الاحتفال برأس السنة فتُتلى الملحمة كاملة من قبل الكاهن الأعلى أمام تمثال مردوخ بحضور جماهير العباد و تمثيل بعض مشاهد الملحمة وربما شارك الملك و كبار الكهنة في اتخاذ الأدوار الرئيسية فيها.

كما أن هناك مشابهات بين ملحمتي جلجامش و الأنيوما ايليش وبين الاصحاحين الاول و الثاني من كتاب التوراة و التشابه يكاد يبدو متماثلاً بين الاينوما ايليش البابلية و سفر التكوني العبراني في قصة التكوين و خلق الانسان و هذا قد يدل على نتيجة الاحتكاك الطويل مع الثقافات السورية كما أن السبي البابلي قدم لليهود فرصة الإطلاع على آداب و ديانة و أساطير ثقافة أرض الرافدين و عندما عادوا إلى أورشليم قاموا بتدوين نصوص التوراة المتفرقة في كتاب جامع و كانت الاينوما ايليش درة الادب و الفكر البابلي عميقة التأثير فيهم ، و تعد ملحمة الاينوما ايليش من أجمل النصوص الأدبية القديمة و هي الى جانب ملمحمة جلجامش و ملحمتي هوميروس و بعض اسفار التوراة ،أبدع ما أنتج انسان الحضارات القديمة من أدب.