الفكر الإسلامي وضرورات تصويب البوصلة: الممكن والمأمول .

thumb (5)
حجم الخط

ن الذي نشاهده اليوم، ومنذ انتكاسة الربيع العربي، والظهور الواسع لتنظيم الدولة (داعش)، من حيث حجم التخريب والوحشية، والجرأة على سفك دماء المسلمين والأقليات التي تعيش في جوارهم، مما أعطى الذريعة لأنظمة الظلم والفساد والاستبداد لأن ترتكب المجازر، وتعمل على إهلاك الحرث والنسل بذريعة التصدي لهم.!! وأكثر من ذلك هي في استدعاء القوى العظمي لتنشر طائراتهم الحربية الموت الزؤام في المدن والبلدات التي يقطنها العرب المسلمون. إن هذه الجرائم والانتهاكات الصارخة للقانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، تدعونا للتساؤل: ما هي علاقة كل ما يجري بالإسلام والمسلمين؟ وأين يقف الفكر الإسلامي من مثل هذه الظواهر التي شوهت تاريخنا وواقع أمتنا، وجعلت حتى المسلمين في دول الشرق والغرب وتيارات الاعتدال والوسطية من الإسلاميين ينفرون من هذا الذي يجري داخل حواضرنا العربية؟ لماذا تحول الغلو والتطرف من ظاهرة منبوذة أو محدودة تاريخياً إلى سلوك مزدهر في ربوع بلادنا، وتدعمه - للأسف - تنظيمات ودول في منطقتنا العربية، وتقف خلفه مؤسسات بواجهات إسلامية وبأجندات مشبوهة؟! أين هم في الفضاء الإسلامي الواسع من تصدوا لتلك الظواهر، أم أنهم آثروا الصمت، طمعاً في "ذهب المعز" لهؤلاء القائمين على هذا الأمر أم خشية نصل سيوفهم؟!
للأسف، إن الكثير مما يروج في ساحة السلفيين، وخاصة الجهاديين منهم، هو فكر ينتهي – غالباً - بأصحابه إلى هذه الجماعات المتطرفة، التي تنشر الموت والدمار، وتصنع أجواءً تُنفِّر من الدين، وتُعمِّق الكراهية للعرب والمسلمين.
إن مشهد الحكم والسياسة لتنظيم الدولة (داعش)، والذي نتابع ممارساته اليوم في كل من سوريا والعراق يدفع بالناس للخروج من دين الله أفواجاً!! فليس هذا هو الدين الذي جاء به نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) رحمة للعالمين، وبشَّر به المسلمون من بعده، ولم يكن هذا هو الحال الذي كان عليه المسلمون في الأندلس لثمانية قرون، والذي بفضل تقدمهم العلمي والأخلاقي وثرواتهم الفكرية والثقافية نهضت أوروبا، وبنت الكثير من صروح المجد التي نراها اليوم، وإذا أخذنا تاريخ السلاجقة والعثمانيين أدركنا كم كان الإسلام ديناً عظيماً، وله من البصمات والأثر الكثير على امتداد ربوع بلادنا العربية والإسلامية من المحيط إلى الخليج، ومن طنجة إلى جاكرتا، حيث أسهم في بناء العديد من الممالك والحضارات في آسيا وأفريقيا، كما أن ملامح عظمته تتجلى آثارها في الكثير من الحواضر الأوروبية.
إن مظاهر الغلو والتطرف التي تسود اليوم شرقنا الإسلامي بحاجة إلى قراءات ومراجعات شاملة؛ لأنها أوجدت أوضاعاً كارثية أكلت الأخضر واليابس في بلادنا العربية، وعبأت العالم الغربي ضد كل ما هو إسلامي، وما يجري في سوريا والعراق تحت عناوين تنظيم الدولة (داعش) إنما هو في سياق حملة عالمية هدفها الظاهر هو القضاء على (داعش)، ولكنَّ باطنها هو قتل كل شيء جميل وعظيم متعلق بهذا الدين، الذي هو - في الأصل - دعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ورسالته إنما هي رحمة للعالمين.
إن علينا كإسلاميين أن ندرك بأن الإسلام قد تمَّ اختطافه من قبل جهات ومؤسسات وجمعيات وهيئات وحتى جامعات ومعاهد تحمل – للأسف - عناوين إسلامية، ولكنها في الحقيقة تخدم أجندات سياسية؛ إقليمية ودولية، وقد وفَّرت لها هذا النوع من الثقافة الإسلامية الأصولية المتشددة، ودعمتها بالمال ووعاظ السلاطين والماكينات الإعلامية الموجهة لغزو الفضاء الشرق أوسطي، واستباحة العقليات الإسلامية الشابة، وإشغال الحالة الإسلامية في معارك جانبية، بهدف استنزاف قدراتهم وثرواتهم، وقطع طريق الاقتداء بهم في الغرب، ومنع الإسلام من الانتشار والتمدد في تلك البلاد.
إن هذه الصور الإرهابية المنفرة للدين الإسلامي، التي تصنعها سلوكيات تنظيم الدولة (داعش) في العراق وسوريا، كافية لتخويف الشعوب الغربية وإبعادها عن هذا الدين، الذي أخذ في التنامي والظهور بشكل ملحوظ في معظم دولهم، وغدا يشكل تهديداً لثقافاتهم ذات الأصول المسيحية - اليهودية.
أحداث سبتمبر: الكارثة وحملات الاستهداف والتشهير
بعد أحداث 9/11/ 2001، سمعنا بأن السلطات الأمريكية طلبت من السفارة السعودية في واشنطن بتقليص دعمها للأنشطة ذات الصبغة الدينية، والعمل على تفريغ مخازنها ومؤسساتها الدينية العاملة على الساحة الأمريكية من الكتب والمراجع الإسلامية، التي اعتادت سفارات المملكة توزيعها بالمجان على المساجد والمراكز الإسلامية حول العالم؛ لأنها بحسب تقديرات خبرائها الأمنيين تسهم في عمليات غسيل الدماغ للشباب، وتدفعهم للميل إلى نهج سلوكيات الغلو والتطرف!!
بالطبع، خسر العرب والمسلمون في الغرب الكثير من أمنهم وحرياتهم، وتراجعت مكتسباتهم، وأغلقت الكثير من مؤسساتهم الإغاثية والدعوية، بسبب تلك السياسات والحملات التحريضية المغرضة ضدهم.
من خلال زياراتي المتكررة لدول المغرب العربي، وجدت أن هناك فرقاً كبيراً على مستوى الثقافة الإسلامية بين ما يتمّ نشره وتوزيعه في تلك البلاد، وخاصة في كل من تونس والمغرب، وبين ما نطالعه من مصادر معرفية وثقافية في مشرقنا العربي، والتي غلبت عليها الأدبيات السلفية التي تنحو في بعض وجوهها باتجاه التشدد، وتفتقر إلى المرونة والوسطية، مما استدعي الشيخ محمد الغزالي (رحمه الله) أن يهاجم التيارات المتشددة في بعض كتبه.
إن القارئ لما يتم نشره في بلاد المغرب العربي بأقلام مثل: د. أحمد الريسوني والفقيه د. سعد الدين العثماني، والأخ د. أحمد العبادي، والأستاذ راشد الغنوشي والشيخ عبد الفتاح مورو، والأخ د. محمد يتيم، والشيخ أبو جره سلطاني وآخرين، والتي تعتمد على منهجية فقه المقاصد في الشريعة الإسلامية، وفقه الموازنات والمآلات والواقع، والأخذ باعتبارات المصالح المرسلة في السياسة الشرعية، والتي منحت مرونة عالية في فهم النصوص، والتعامل معها في سياقات الزمان والمكان، مما مكَّن لحالة من الاستقرار النسبي في تلك البلاد، وأوصل الإسلاميين إلى سدَّة الحكم، والنجاح في التعامل مع الآخر والتعايش معه؛ أي الخصم السياسي والأيديولوجي، ضمن القواسم المشتركة والتوافق الوطني، إلى ما فيه مصلحة البلاد والعباد.
مدخل التطرف والإرهاب في الشرق الأوسط
لا شكَّ أن مظاهر التطرف والإرهاب التي طغت في منطقتنا العربية خلال العقدين الماضيين لها الكثير من الدواعي والأسباب، ولكن يبقى الظلم الذي لحق بالكثير من الشباب العربي الذي قاتل في أفغانستان على زمن السوفييت في الثمانينيات هو واحداً منها؛ بل وأهمها. حيث غدرت أمريكا بهؤلاء الشباب، وتنكرت لجهادهم، الذي أطاح بعرش الشيوعية، وهزَّ أركان إمبراطوريتها العظمى، وأدى إلى تفتتها، وحسم معركة الصراع فيما يسمى "الحرب الباردة" لصالح الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. كانت الضربة التي وجهتها أمريكا لهؤلاء المجاهدين (الأفغان العرب) بالتخلي عنهم والتآمر مع حكومات بلادهم لاعتقالهم والتضييق عليهم هي من ولَّد حالة العداء والكراهية وعزز رغبات هؤلاء بالانتقام.
لقد قام هؤلاء العائدون من أفغانستان بتأسيس مجموعات صغيرة أو وتنظيمات كبيرة أصبح مبلغ علمها وجلُّ همِّها هو مقاتلة الغرب، وخاصة أمريكا في كل الساحات، حتى في حواضرهم وعقر دارهم.!! وحيث إن الآلاف من هؤلاء المجاهدين قد سبق لهم أن جاءوا من كل بلاد العرب والمسلمين لمحاربة الشيوعيين في أفغانستان، فقد تحول الكثيرون منهم - جراء الظلم والقهر الذي لحق بهم بعد عودتهم إلى بلادهم من قبل الأنظمة البوليسية - إلى متطرفين، لا همَّ لهم إلا التمرد والانتقام وقتل الأمريكان.
إن المفكرين الإسلاميين في بلادنا العربية معقود على حكمة عقولهم وأقلامهم إعادة بلورة وعي النخب الإسلامية الحركية وتحديد اتجاهات بوصلتها، حتى لا تظل تتخبط بعيدة عن أهدافها المرجوة، وخارج سياق تطلعات أمتنا في الحرية والاستقلال.
لقد استبشرنا خيراً بعد هزيمة السوفييت في أفغانستان، وتوقعنا أن يتم توظيف الخبرات القتالية لهؤلاء المجاهدين العرب لصالح تحرير فلسطين؛ القضية المركزية للعرب والمسلمين، ولكن - للأسف - أنصرف هؤلاء الشباب بعيداً، وأخذت طاقاتهم وجهة أخرى بالدخول في صراع دامٍ مع الأنظمة الحاكمة في بلادهم.
لم تستفد فلسطين إلا من طاقات أبنائها، ونجحت في مواجهة جيش الاحتلال في الانتفاضتين الأولى والثانية، ولكن إنجازات هذه التضحيات لم تكلل بالنجاح الذي انتظرناه بطرد المحتل من أرضنا.. للأسف، دخلنا في مواجهات مسلحة بين أبناء الوطن الواحد، وما زلنا منذ عشر سنوات ندفع ثمن الانقسام البغيض، والذي تتكرس معه لغة القطيعة والانقسام ونفي الآخر في ثقافتنا الفلسطينية؛ الوطنية والإسلامية، والتي غدت هي الأخرى بحاجة إلى مراجعات جادة وإلى حكمة أهل الرأي، لتصويب بوصلتنا من جديد.
الممكن وسؤال القدرة والإمكان؟؟
إن سطوة الأفكار التي تتحدث عن "الملاحم الكبرى"، والتي يتناقلها بعض شيوخ السلفية الجهادية تحتاج إلى مراجعات جادة، حتى لا يضيع شباب الأمة في متاهة ما يجري في العراق وسوريا وليبيا وبلدان إسلامية أخرى. كما أن غياب فقه واقع الاستضعاف الذي تعيشه الأمة الإسلامية يدفع الكثيرين لتبني سياسة حرق مراحل التدرج في التغيير والإصلاح، كما أن إقامة كيان سياسي مستقل عن هيمنة الأعداء لا يحققها التعاطف الشعبي الآني، ولا توجدها انتصارات عسكرية محدودة، وأن هؤلاء يغيب عنهم أن أمة لا تصنع سلاحها ولا تزرع غذاءها لا تملك قرارها.
إن هؤلاء الشباب الطيبين من المتدينين، الذين وفدوا بالآلاف من بلاد عربية وإسلامية للقتال في العراق وسوريا، كانوا مدفوعين بهدف تغيير الواقع السياسي القائم والتمكين للإسلام في تلك البلاد، وإن هناك الكثير من المخلصين بينهم، كما أن هناك من عمل على تضليلهم من أصحاب الأجندات الخاصة، والذي لبعضهم ارتباطات بجهات استخبارية عالمية تحركهم لخدمة مصالحها الاستعمارية في المنطقة، والتي سوف تؤدي إلى تجزئتها، وتقاسم ثرواتها، والتخلص من أبنائها، وتشويه صورة الإسلام والمسلمين في ربوعها.
إن تنظيم الدولة (داعش) قد تمت شيطنته بالشكل الذي أفزع العالم كله من الإسلام والمسلمين، وتتم اليوم من خلال حملات (الإسلاموفوبيا) في الغرب تشويه كل ما هو إسلامي والتحريض عليه، واتهامه بالتطرف والإرهاب، ومشاهد القتل والتدمير الفظيعة التي تجري في العراق وسوريا وليبيا تكفي كدليل وبرهان!!
لقد أثرَّت تداعيات هذا المشهد الدامي في تلك المناطق بشكل سلبي على صورة المقاومة الفلسطينية، والتي هي حق كفلته القوانين الدولية والشرائع السماوية للشعوب المحتلة، بحيث اختلط الحابل بالنابل، وأصبح الجميع في كفة اتهام واحدة أو هكذا تريد إسرائيل، والتي أطلقت العنان لماكينة دعايتها لخلط الأورق، حتى يبدو إرهاب الدولة الذي تمارسه ضد الفلسطينيين على شاكلة ما يجري في العراق وسوريا، فلا يحرك العالم ساكناً!!
لا شكَّ أنه وبعد عدة سنوات ستختفي ظاهرة (داعش) من مشرقنا العربي، ولكن اذا استمرت الأحوال على ما هي عليه من ظلم وقهر واستبداد وظل العسكر ممن يحكمون البلاد والعباد بالحديد والنار، فسوف تعود أشكال الغلو والتطرف تحت مسميات أخرى، ولن تحظى بلداننا وشعوب أمتنا بالأمن والاستقرار، وسنظل مطية للاستعمار.
باختصار: نحن نحتاج إلى مراجعات فكرية جادة، لإصلاح ذات البين، والعمل في مساحات المشترك بتوافق وطني يعكس استعدادات حقيقية للشراكة السياسية، وأن يكون التنافس قائماً على البرامج، بعيداً عن منطق المغالبة والاستحواذ.
إن السياسة تقودها الأحزاب، وهي من تتوافق على أشكال التنافس والتداول السلمي للسلطة، أما من يريدون الانخراط في العمل الدعوي فساحات المساجد ومنابرها مفتوحة لذلك.
إن عملية الخلط بين الدعوي والسياسي ثبت فشلها، وإن أنجح صور العمل السياسي هو ما كان مستقلاً عن قاطرة الأيديولوجيا، وإن كان يحتاج إلى دعمها في المواسم الانتخابية.
لقد أدرك اليوم الكثير من حركات الإسلام السياسي أهمية الفصل بين الدعوي والسياسي، وأن تكون أجنداتها وطنية خالصة، فشرعت بإقامة الأحزاب السياسية والتفرغ لإدارة شئون البلاد بما يضمن تطورها واستقرارها، وقد شاهدنا خلال السنوات الأخيرة أن الكثير من تلك الحركات الإسلامية قد صارت لها واجهات سياسية واضحة المعالم، وأحكمت الفصل بين الدعوي والسياسي.
إن تعميم هذا النهج يحتاج إلى جهد فكري وتأصيل ديني، وهذه مهمة العلماء والمصلحين وأهل الرأي والحكمة.