كأن طفلاً بات يهذي قبل أن ينام
بأن أمه _ التي أفاق منذ عام
فلم يجدها .. ثم حين لجّ في السؤال
قالوا له : بعد غدٍ تعود
لابدّ أن تعود
وإن تهامس الرفاق أنها هناك
في جانب التل تنام نومة اللحود
تسف من ترابها وتشرب المطر
كانت حياته مليئة بالآلآم والأوجاع .. والصمت الحزين ، وكان يكتب الشعر لـ ينسى .. وربما قوله يلخص لنا ما عاشه حيث يقول وهو يكتفي من حياته ويهجع للموت : أشعر أني عشتُ طويلا ، رافقت جلجامش في مغامراته ، وصاحبت عوليس في ضياعه ، وعشت التاريخ العربي كله ، ألا يكفي هذا ..؟
فهل يمـّل الشاعر من الحياة ..! ويتوقف عن التغني بها ..؟ ورفد تفاصيلها جمالا آخر قد لا يراه غيره ..!؟
ولد بدر شاكر السياب في قرية جيكور ضمن قضاء أبي الخصيب في محافظة البصرة العراقية ، ابناً لشاعر هو شاكر السياب .. كانت فاجعة السياب الأولى وفاة والدته إثر ولادتها لطفلها الثالث .. فعاش يتماً مبكراً وحزناً موجعاً ربما كان سبباً لإبداعه الشعريّ الرائع .
وقد بدأ السياب بكتابة الشعر منذ عمرٍ مبكر ، وقد كان مولعاً بقريته الصغيرة ( جيكور) فقد ألهمته الكثير وكانت سبباً ما جعله يكتب الشعر .. يقول عم الشاعر عبدالمجيد السياب : (كنت أعرف مكان السياب علي النهر (نهر بويب) من الأوراق… إذ كان عندما يكتب يمزق كثيراً من الأوراق ويرميها في النهر فأهتدي بها إليه…). وعن سر اهتمام السياب بـ (بويب) قال السيد عبد المجيد..Lفي نهاية الأربعينيات قرأت قصيدة لبابلو نيرودا يتحدث عن نهر لا اذكر اسمه وكان السياب قريب مني، فقرأ القصيدة واعتقد انه تأثر بها فكتب قصيدته (بويب )
كان السياب مرهف الحس رقيق المشاعر .. وربما هذا الذي جعله يحب فتيات أولين له ظهرة وتركنه يعالج آلام الحب ووجعه ..!
ففي دار المعلمين العالية وقع السياب في حب فتاة بغدادية أخذت حظها من العلم والمعرفة ، ولها مع العلم جمالاً أخاذاً أولع به الشاعر ، وقال فيها قصائد كثيرة من شعره ، وقد كانت رفيقة للشاعرة نازك الملائكة ..
وأحب زميلة له حبا من طرف واحد أيضا وكان حبا افلاطونيا ارتفع حب الخيال حتي جاوز الحد وتضاءلت فيه رغبة الجسم فما كان منها إلا ان تتزوج رجلا ثريا وتترك السياب بآلامه ..
وتعرف أيضا على الشاعرة لميعة عباس في دار المعلمين العالية .. وكانت علاقتهما في البدء ذات طابع سياسي ولكن الشاعر وبمشاعره الفياضة صار يحبها حباً كبيراً .. تسامى فيه على كل شيء ، وقال من أجلها قصائد كثيرة بل إنه دعاها لزيارته في قريته الصغيرة .. ورحلت معه وبقيت هناك .. يجلسان بين البساتين والأشجار أو يتجولان في الأنهار لـ يقرأ لها قصائده فيها .. ويقال أنه خطبها ولكنها رفضته لدمامة شكله ..
ولكنه ظلّ يتذكرها .. حتى ذكرها في إحدى قصائده وهو في لندن إذ يقول :
ذكرتك يا لميعة والدجى ثلج وأمطار
ولندن نام فيها الليل ، مات تنفس النور
ذكرت شحوب وجهك حين زمر بوق سيارة
لـ يؤذن بالوداع ..!
تزوج السياب أخيراً من زوجة أحبها وأخصلت له .. فكانت له نعم الزوج الوفية .. أعانته في أيام مرضه وشقاءه .. وأنجبت له ثلاثة أطفال ..
عاش السياب في سنيّ حياته الأخيرة صراعاً مريراً مع المرض والآلآم والأوجاع التي لا نهاية لها حتى قال :
لك الحمد مهما استطال البلاء ومهما استبد الألم
لكن الحمد ان الرزايا عطاء وأن المصيبات بعض الكرم
ألم تعطني أنت هذا الظلام ..؟ وأعطتني أنت هذا السحر ..؟
كان السياب في سنوات عمره الأخيرة طريح الفراش مريضاً لا يفارقه .. وكلما اشتد به المرض ازداد حنينه لأمه التي فارقته طفلاً صغيراً .. ويقول :
الباب تقرعه الرياح لعل روحا منك زار
هذا الغريب هو ابنك السهران يحرقه الحنين
أماه ليتك تعودين
وكان حين يشتد عليه المرض ينظر لزوجته بعين الريبة وبأنها توقفت عن حبه ومات حبه في قلبها فكان يقول :
وأشرب صوتها ..فيظل يرسم في خيالي صف أشجار
ويقسو عليه المرض فيعود للكويت .. وتخبره زوجته بأنها قادمة لزيارته فيفرح فرحاً كبيراً :
كل ما يربط بيننا محض حنين واشتياق
ربما خالطه بعض النفاق
ويعود لشعره الثوري وهو على فراش المرض والموت ، فـ يتحول نظره للمجتمع ، وأنه سيموت ويترك هذه الأرض ويترك الناس في هذه الحياة .. بينما الطغاة يستغلون الناس الجائعين المرضى في بلده الحبيب ..!
سوف أمضي .. وما زالت تحت السماء
مستبدون يستنزفون الدماء
سوف أمضي وتبقى عيون الطغاة
تستمد البريق
من جذى كل بيت حريق
والتماع الحراب
في الصحاري ومن أعين الجائعين
سوف أمضي ، وتبقى فيا للعذاب
ثم يموت السياب .. أهلكه المرض والحزن والحب .. مات رجلاً شاعراً شاباً .. ولكنه ترك من الآثار الشعرية الكثير .. كان كريماً في شعره .. محباً للشعر والحياة .. ومحباً للعراق ..