شطب المستقبل العربى عبر تدمير عواصم العمران والتاريخ

talal-salman-200
حجم الخط
 
يكاد المشرق العربى يتحول إلى بركة عظيمة من دماء أبنائه، بلا أفق «يبشر» بنهاية قريبة لهذا الضياع المتمادى الذى ينذر بمخاطر جدية تهدد الكيانات السياسية القائمة فيه، فضلا عن «وحدة الشعب» التى كانت الأمل والطريق إلى الغد الأفضل للأمة الواحدة الموحدة، المعافاة والقوية والقادرة على احتلال مكانتها تحت الشمس.
 
من اللاذقية وطرطوس على ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى الحديدة والمخا على البحر الأحمر، تلتهم الحروب التى تفتقد المبررات الكافية لتفسير تفجّرها وتمدد نيرانها ملتهمة أو ــ بالحد الأدنى ــ مهدّدة وحدة «الشعب العربى» قبل الكيانات السياسية وبعدها، بالتهاوى والانفراط فى غمار حروب بلا أهداف تستحق كل هذه التضحيات. إن الخسائر الفاحشة تتجاوز أى تقدير وتكاد تذهب بالأوطان وشعوبها التى كانت إلى ما قبل عهد قريب «شقيقة» يجمعها حلم التوحد طلبا للقوة، أقله لمواجهة العدو الإسرائيلى الذى احتل فلسطين ثم تضخم خطره فبات يهدد الوطن العربى جميعا، مشرقا ومغربا.
 
فى سوريا، التى كانت تتبدى آمنة فى ظل دولة قوية، نسبيا، حرب مفتوحة تشارك فيها دول عدة، ومنظمات إرهابية تكاد تكون بقوة دول، أخطرها وأوسعها تمددا تنظيم «دولة الخلافة الإسلامية»... وبعض هذه المنظمات يحظى برعاية دول عربية غنية ونافذة، ويستفيد من مواقف ملتبسة لدول كبرى أخطرها الولايات المتحدة الأمريكية... أما الدليل فإن المختل عقليا وحده يمكن أن يقبل ادعاء واشنطن بأن تنظيم «داعش» قد اجتاح بسياراته اليابانية الجديدة التى تسلّمها فى تركيا، وعبر بها إلى الموصل فى العراق، من دون أن يلمحه قادة طائراته الحربية التى لها قواعد معروفة فى دولة الانطلاق (تركيا) كما فى الدولة المقصودة (العراق) من دون أن تكشفه الرادارات الجبارة المنصوبة فى مختلف أنحاء تركيا، وبعضها يقوم مباشرة عند الحدود مع كل من سوريا والعراق.
 
إلى «داعش» هناك «القاعدة» ـ كما اسمها الأصلى ـ أو «جبهة النصرة»، كما اسمها المستحدَث... وقادتها وعناصرها يتحركون مخترقين الحدود السورية ــ العراقية فى الاتجاهين، من دون أن تكشفهم الطائرات من دون طيار، أو الطائرات الحربية الأمريكية التى تجوب الآفاق مخترقة الحدود بين تركيا وسوريا، وتركيا والعراق، والعراق وسوريا بلا رقيب أو حسيب.
 
***
 
لقد بات المشرق العربى أرضا مفتوحة يتجول فى أنحائها وسمائها كل من استقوى على ضعفها بقوته...
 
فى العراق طائرات حربية بجيوش من سبع دول غربية، أو أكثر، فضلا عن القوات الأمريكية التى تتمركز فى قواعد عسكرية للجيش العراقى، أو أخرى ابتنتها خلال مرحلة احتلالها..
 
وفى انحاء الجزيرة والخليج العربى قواعد يقيم فيها «خبراء» بذريعة تدريب جيوش هذه الدول الغنية بنفطها والغاز والفقيرة بعديد سكانها... وللخبراء حصانتهم، وهم يشكلون القيادات الفعلية، فضلا عن أن أمر العمليات فى واشنطن، يصدر فيها ومنها... ولهذه الطائرات بحاملاتها أو بالمطارات الصديقة مهمات عديدة أبرزها رصد ما يجرى فى الخليج امتدادا إلى بحر العرب وصولا إلى مضيق باب المندب فالسواحل السعودية واليمنية والأفريقية وصولا إلى قناة السويس وعبرها إلى البحر الأبيض المتوسط...
 
أى أن الشواطئ العربية على البحرين، الأبيض والأحمر، هى تحت الحماية الأمريكية وليس تحت رقابتها فحسب... وإذا كان الشاطئ السورى الذى بات تحت حماية الروس يشذ عن القاعدة فإنه تحت الرقابة المباشرة، أمريكيا واطلسيا (تركيا بالذات).
 
إذا أضفنا إلى هذا الأمر الواقع أن نفط شبه الجزيرة العربية والغاز (أى ثروة هذه البلاد التى كانت صحارى فغدت من أغنى دول الأرض) تحت السيطرة الأمريكية، أدركنا أين هو المصدر الفعلى للقرار فى هذه الدول..
 
وصحيح أن نيران الحروب فى المشرق لم تطاول بعد دول الجزيرة والخليج ذاتها، لكن بعضها ضالع فى إشعال النار (كما فى سوريا) أو فى منع إطفائها، (كما فى العراق) باستخدام نار أشد سعيرا هى الطائفية والمذهبية بل والعنصرية (كما فى موضوع الأكراد)..
 
كذلك فإن النار التى أشعلتها هذه الدول فى اليمن الذى يتميز عنها بفقره راهنا، كما بحضارته تاريخيا، تنذر بالتمدد إليها... فأحدث الطائرات الحربية وأقواها (وهى أمريكية أساسا ومعها طائرات غربية أخرى) تقوم بتدمير مدن هذه الدولة العريقة وقراها، بتراثها المعمارى الذى لما يفقد تميّزه، وآخر إنجازات هذا الطيران الحربى قصفه دار عزاء فى صنعاء قضى فيها مئات اليمنيين، كما جُرح المئات...
 
ومؤكد أن هذه المذابح اليومية، ومعها تدمير أسباب العمران، لن تذهب باليمن بل ستعمّق مشاعر العداء بين الشعبين الجارين اللذين كان يفترض أن يكونا شقيقين، وستُعزز الرغبة بالثأر لدى اليمنيين ـ شمالا وجنوبا ـ..
 
إن تدمير دولة اليمن التى وحّدها الشعب ثم الفقر، فضلا عن اضطهاد الأخوة الأغنياء، لن يعود بالخير على دول الخليج، ومعظمها ناشئ تحميه ثروته التى تستدرج المستثمرين الأقوياء الذين قد يتدخّلون لحماية مصالحهم المذهبة فى هذه البلاد التى بلا أهل أو بلا رأى لأهلها فيها.
 
كذلك فإن المساهمة بتدمير وحدة العراق عبر النفخ فى جمر المذهبية ومحاولة تقسيم العراقيين إلى شيعة وسنة، بعد استثمار العرق لتشجيع انفصال الكرد عن العرب (بتحريض ورعاية أمريكية، أضيفت إليها مؤخرا رعاية العدو الإسرائيلى).. كل ذلك لا يمكن أن يرتد بردا وسلاما على دول الجزيرة والخليج. بالمقابل فإن الوقاحة التركية فى الإصرار على التدخل فى شئون العراق الداخلية، بذريعة «حقها» فى المشاركة فى تحرير الموصل، التى لم يحتلها «داعش» ولم يرتق «خليفته» منبر مسجدها الكبير، إلا بمساعدة مباشرة تركية، أبرز أدلتها ذلك الطابور الطويل من سيارات داتسون الواصلة من مصانعها اليابانية عبر الأراضى التركية إلى شمال العراق وصولا إلى ثانية كبرى مدنه: الموصل.
 
***
 
أما فى سوريا، فالموقف التركى فى غاية الوضوح، أمس واليوم وغدا... لقد آوت الحكومة التركية ودرّبت وسلّحت (مباشرة أو بطرق غير مباشرة) فصائل عديدة من مقاتلى المعارضة السورية، بينها «جبهة النصرة» ـ أى «القاعدة» ـ فضلا عن «داعش» التى سهّلت لها العبور وحمت لها جميعا طوابير مقاتليها فى تنقلهم بين سوريا والعراق وإن ظلت مناطق الانطلاق نحو الدولتين العربيتين: الحدود التركية... كما أن معسكرات التدريب والتسليح كانت عند تلك الحدود أو داخلها.
 
طبعا لم تكن تركيا وحدها شريكة فى الحرب فى سوريا وعليها، بل إن بعض دول الخليج بالقيادة السعودية، كانت لها مواقفها المعلنة فى عداء النظام فى دمشق إلى حد التحريض عليه علنا وتقديم المساعدات المؤثرة ـ تسليحا وتدريبا وتمويلا وإيواء ـ إلى المنظمات والجبهات المختلفة التى توالدت بغزارة، كما الفطر.
 
ولقد تكشفت فى الأسابيع الأخيرة «متانة» العلاقة بين المخابرات الأمريكية و«جبهة النصرة» المتحدرة من «القاعدة»، إذ رفضت واشنطن أن يشمل تصنيف هذه الجبهة ضمن المنظمات الإرهابية.
 
* * *
 
المفارقة مفجعة: فثلاث من العواصم التى اصطنع فيها تاريخ هذه المنطقة العربية مهدّدة بالضياع وخسارة الدور، هى صنعاء وبغداد ودمشق.. هذا فضلا عن مدن عريقة أخرى لا تقل أهمية وخطورة فى دورها فى بناء الحضارة الإنسانية مثل حلب والموصل وتعز وعدن.
 
أى ان العواصم العريقة تدمّر وتختفى ويُطمس معها التاريخ، وتستولد عواصم لا تاريخ لها مثل الدوحة وأبو ظبى والرياض، بكل ما يعنيه ذلك من شطب لصفحات مجيدة فى كتاب الحضارة الإنسانية، عمارة وسياسة وثقافة وإبداعا فنيا مميزا.
إن العرب يدمرون صفحات المجد فى تاريخهم بأيديهم: مرة بالمكايدة والأحقاد الموروثة، ومرة ثانية بطموح بعض الأغنى بالثروة والأفقر بالتراث الحضارى إلى احتلال الموقع القيادى بشطب «الكبار» مستقويا عليهم بذهبه وفقرهم.
 
ومفهوم أن الدول التى أنشأها النفط والغاز تبقى رهينة مستثمرى ثروتها، والثروة لا تشترى التاريخ ولا هى مؤهلة لاستيلاد حضارة فى أرض لم تعرفها ولا هى تتسع لها. وجميل أن تستعير أبو ظبى، مثلا، بعض متحف اللوفر من باريس، لكنه لن يصبح بعض تاريخها، وإن كانت اللفتة ممتازة سياحيا.
 
إن العرب يخسرون مع حاضرهم ماضيهم والمستقبل.
 
إننا نغتال ماضينا مع الحاضر والمستقبل..
 
ومؤسف أن لا أحد يتوقف ليعيد النظر فيما يجرى لمحاولة استنقاد ما يمكن إنقاذه من أشلاء المستقبل.