ماذا ننتظر؟!(تقدير موقف بخط الرئيس جمال عبدالناصر وكأنه يكتب اليوم )

thumb (7)
حجم الخط
كتب جمال عبد الناصر بخط يده في 2 نوفمبر 1964 تقدير موقف؛ عرض فيه «للجو غير العادي» في البلد الذي شعر به في ذلك الوقت، وأسبابه، ومشاكله الحقيقية السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وأعقب ذلك بدعوي لاجتماع في 30 مارس 1965؛ لتقييم المرحلة السابقة، وطرح مقترحات للعلاج مكتوبة أيضا بقلمه.
 
وقد رأيت أن أنشر مجمل ما جاء في أوراقه هذه؛ فهو ينم عن إحساس مرهف بالشعب- مطالبه وشكواه ـ وبالوضع العام في البلد بجميع مؤسساته. ولا أنكر أن هذه الأوراق أثارت دهشتي واهتمامي، فقد شعرت كما لو كان يتحدث في وقتنا الحاضر فيما يتعلق بالمشاكل، أما الحلول فمن الطبيعي أن تختلف من عصر الي آخر ومن نظام سياسي عن غيره. ولكني تعلمت من قراءة الوثائق البريطانية علي مدي نصف قرن، أهمية السوابق؛ حيث لا تتخذ القرارات السياسية بدون الرجوع اليها، ليس لتكرارها وإنما للاهتداء بها بالنسبة للحاضر والمستقبل.
 
وهنا سوف أعرض الأجزاء من كلام عبد الناصر التي تتوافق مع مشاكلنا وبعض حلولها، وتوجد الوثائق كاملة في موقع عبد الناصر مع مكتبة الإسكندرية: www.nasser.org
 
عرض عام للأوضاع: جو غير عادي.. علي السطح، ما هو سبب الجو الموجود حاليا؟
 
 
 
1- زيادة الأسعار. 2- استثارات داخلية. 3- إطلاق حرية النقد بغير موازين. 4- عدم وجود مواجهة كافية ومعقولة.
 
من الناحية الاقتصادية:
 
1- هناك تضخم بغير شك..
 
أ- إنفاق متزايد علي الجيش والقوات المسلحة (اليمن).
 
ب- انفلات من جانب الحكم المحلي.
 
- اتجاه الي مشروعات لا يمكن أن تكون انتاجية في الخدمات (مباني وفيلات مفتشي الري).
 
د- تعيينات وإسراف في بدلات ومرتبات.
 
2- سوء توزيع الميزانية النقدية في العام الماضي؛ أدي الي نقص في الانتاج المحلي من مواد كثيرة؛ بينها الصوف علي سبيل المثال.
 
3- توقف عدد من المصانع أشاع جوا وشائعات وبلبلة.
 
4- الجهاز الحكومي كله مضاد، الموظفون غير واعين.. في القمة، يريدون امتيازات ولا يحصلون علي ما يريدون، ويحسدون مجالس إدارة الشركات والمؤسسات. في القاعدة، ضغط الغلاء عليهم كبير.
 
5- القطاع العام.. معظم الناس فيه يريدون خلق طبقة جديدة، وتضايقهم أي قيود.
 
6- السلك السياسي في الخارج كله معاد، خصوصا بعد التخفيضات الأخيرة، نصفهم رجعيون (كارهون)، ونصفهم منتفعون.
 
جو الريف: المفاتيح التقليدية ضائعة! الأعيان القدامي بعيدون، أو بعضهم يتزلف للمحافظين. وجود إحساس بطبقة جديدة. وجود سماسرة قرب المحافظين. ( اسماعيل فريد حينما قطع المياه عن رأس البر لصالح جمصة!). أين فلاحو الإصلاح الزراعي؟!
 
أخطاء التسويق التعاوني - مصاعب التعامل مع بنك التسليف. فقدان الثقة مخيف!
 
وجود فساد أو محاولات: الفنادق ـ التليفزيون - وزارة المواصلات - ضباط البوليس والتسعيرة - الفيزات والسماح بالخروج ـ الشقق. الضيق بالنقد علي القمة، والحساسية!
 
موضوع الحراسات وماذا جري فيه؟ طبقة طحنت، وهي تتكلم الآن بغير حساب، علي مرأي من بقايا الطبقة القديمة الزميلة لها، وعلي مشهد من طبقة أخري تتكون. لم يسمح لأحد منهم بالعمل حتي الآن.
 
موضوع الشيوعيين: لم تنفذ أي خطة فيما يتعلق بتفكيكهم؛ والنتيجة الآن يتجمعون.
 
التنظيم السياسي كاد أن يموت، كيف يمكن بث الحياة فيه في ظروفه الحالية؟ برنامج للعمل - مؤتمر تنظيمي.
 
مجلس الأمة: التيارات فيه ـ الشكاوي، وماذا حدث في المؤتمر البرلماني في كوبنهاجن؟ من اشتغل؟ ومن اشتري؟!
 
التربص الآن بالحكومة - الرغبة في الشعبية الرخيصة - عدم وجود رابط بالاتحاد الاشتراكي - ضعف التوجيه.
 
الوزارات: لا وجود لوزارة البحث العلمي ـ المشاكل في وزارة الصناعة.
 
تمزق الحكم: وجود مجموعات في المجلس ـ عدم الاجتماعات ـ عدم التناسق ـ السلبية والخوف - التسابق الرخيص ـ طريقة المناقشات ـ وجود كراهية عنيفة.
 
ما هو الموقف في الجيش؟ سوف يردد الموقف الشعبي بالتأكيد؛ وهو غير متماسك، ولا يمكن الحياة علي القديم وحده.
 
مشكلة نفسية: إنه ليس هناك شيء قابل للتغيير؛ نفس أوراق الكوتشينة! الكلام.. الرئيس لا يسمح بتفريط في علي صبري أو بقية أعضاء مجلس الثورة!
 
وجود إحساس بالتمرد؛ يغذي من جانب قوي كثيرة ـ القوي المضادة موجودة.
 
ما هو المطلوب في النهاية؟ ثورة علي الثورة.. إما من داخل الحكم؛ بتغيير شامل، وهل هذا ممكن؟ وإما من الاتحاد الاشتراكي؛ بتكوين نواة جديدة، والانتقال إلي الشعب. ضرورة إبقاء مرجع حكم أعلي من كل شيء. ما يلزم هو:
 
1- عملية وضع للأمور في نصابها، وعودة النقاوة الثورية الي التصرفات اليومية. مسألة البدلات عند السفر؛ مثلا كم يأخذون؟ مسألة الحساب: بمعني أن لابد بعد ما حدث من أن تنحي رءوس، مثلا في المحافظين، في رؤساء المؤسسات، في مديري الشركات، أو حيث يوجد أن الحاجة والحساب يدعوان الي ذلك.
 
2- حل لبعض المشكلات المعلقة، وإعادة النظر سياسيا في مسألة الحراسات، النظر في أحوال الطوائف للربط الطبقي، وإعادة المرتكزات المعبرة عن الأهداف الاجتماعية لثورة 23 يوليو. حل مسألة السلك السياسي، والتعيينات المعلقة، والقرارات الواقفة في الانتظار؛ حيث يقال: لا شيء يصدر عن الرئاسة!
 
3- وضع تنظيم محكم يجعل الحكم عملية متصلة مباشرة بالناس، بالمشاكل الحاضرة، بآمال المستقبل.
 
4- مواصلة العمل علي خفض الأسعار، وعقد اجتماعات تخصص لدراسة الموقف الشعبي لقطاعات.. الفلاحين، العمال، البورجوازية الوطنية، الموظفين، المثقفين. هل يمكن لهذه الاجتماعات أن تعقد من خلال الاتحاد الاشتراكي كلجنة تنفيذية؟ إن هذه المناقشات سوف تخلق وحدة فكرية.
 
من الواضح أن هناك جوا غير عادي في البلاد،لكن الواقع أن هذا هو الشكل الظاهري للحالة، أما في الحقيقة فالمسألة أكبر من هذا:
 
1- مشاكل حقيقية تؤدي للتضخم، ولها أسباب.
 
2- جهاز الحكومة غير كفء للمسئوليات المتزايدة للدولة، وهو يتحمل كل يوم مسئوليات جديدة بغير تنسيق؛ مثلا التوسع في التأمين الطبي.
 
3- جهاز الإنتاج تواجهه مشاكل كبيرة؛ النقد الصعب، البيروقراطية، عدم صلاحية بعض العناصر.
 
4- لا مركزية إلي أبعد الحدود: المشاكل أكبر من حدود المجموعة التي نعرفها من الناس ومن تصورهم الي حلها؛ نحتاج الي أكثر منهم.
 
5- عدم الالتزام بالخطة؛ بيوت المحافظين، المشروعات خارج الخطة، كما أن هناك شللا وتصادمات.
 
واتجه تفكير عبد الناصر الي ضرورة العمل من خلال التنظيم السياسي أساسا، والاستعداد لتطوير كبير نحو الديمقراطية، ونظام تنفيذي قوي.
 
وبالرغم من الإجراءات التي تمت في ذلك الوقت من خلال الحكومة والتنظيم السياسي، إلا أن عبد الناصر كتب في 2 فبراير 1966 ـ أي بعد 11 شهرا ـ يستعرض الأوضاع بعد الوزارة الجديدة برئاسة زكريا محيي الدين التي بدأت في أول أكتوبر 1965:
 
الوضع الموجود اليوم فيه خطورة، فالتغيير لم يرتبط موضوعيا أو تنفيذيا بالبرنامج المرسوم. أين الجيل الجديد؟ سؤال الناس.
 
في الفترة الجديدة ألقيت شكوك علي عملية الانجاز والانتاج بعد مؤتمر الانتاج والخدمات والإدارة.. سوء الإدارة، بعد ذلك جاء موضوع الأسعار وارتفاعها، علي عكس ما كان ينتظر الناس، وصورة الإنتاج والانجاز اهتزت. في الوقت نفسه عمليات سيئة في الدعاية؛فلا يوجد خط مترابط فيها، والقوي المعادية لأول مرة تجد مواضيع لها أساس حقيقي. موضوع اليمن معقد، والناس تعتبر أننا نستطيع أن نحل كل مشكلة. هل الموضوع أفلت من يدنا؟!
 
لا توجد صلة بين الوزارة والناس! الانجازات الحقيقية غير واضحة، يساء تقديمها للناس. وعندما نعمل عملا جيدا، لا نعرف كيف نقدمه. إن الجبهة الداخلية تعاني حالة قلق نفسي، ويوجد شعور بأن هناك طبقة مميزة ولا تحس بالشعب، كما يوجد ضغط في الريف؛ تحصيل أموال! هناك حملة ضد ضباط الجيش، وتلاقي صدي! الحملة غير جديدة، الجديد هو الصدي.
 
الشيء الايجابي الوحيد أخيرا كان موضوع السد العالي. ما العمل؟ يجب أن نأخذ المبادأة، ونعود للدق علي نقطة الانجاز الذي حدث حتي الآن، ونركز الأضواء كلها علي معالم النجاح لا علي معالم الفشل، والاهتمام بالتنظيم السياسي. كما يجب أن تفرغ الوزارة من الخطة وتناقشها، ثم تعرض بطريقة نبيهة علي المحافظات، وتحرك الناس بطريقة حاسمة ومعمقة، وأن نشركهم ايجابيا.
 
فتح الباب لعناصر جديدة - سفراء مثلا - كما نعمل مع الضباط، كما يجب أن نحاسب الناس، وأن تكون معايير الحكم عليهم صحيحة، ومحاسبة كل واحد علي خطئه، والقضاء علي صراع السلطة. إن الناس تتغير ونحن لا نشعر؛ الناحية الذاتية هي التي تسيطر.
 
الاهتمام بالجامعات وبالإعلام الذي يجب أن يكون حسب خطة وتوجيه، ويراعي الإقلال من الفلسفة ومن إعطاء أفكار جاهزة.
 
يجب أن نعطي أشياء للبلد؛ لأنها الآن لا تردد إلا الشائعات والسخط، ونريد أن نعطي البلد مواضيع لمناقشتها. إن النظام يجب أن يثبت للناس أن فيه صفة الاستمرار والترابط، يجب أن يكون هناك سياسيون لا فنيون فقط.
 
مطلوب برنامج عمل، وعندما حدث الانفصال، نصف الدولة سقط وواجهناه بخطة عمل. ولا يمكن الدخول في معركة عربية، والحالة الداخلية بما هي عليه! إن هناك أزمة نفسية ونفور، السعوديون يحسون بالجو وكذلك الانجليز والأمريكان! هناك انعكاس علي التجربة المصرية من الخارج، رغم النجاح والانجاز، وتوجد حملة دعاية عنيفة ضدنا..
 
لماذا نحن علي الدفاع، رغم كل ما عمل في هذا البلد؟ بأي منطق؟! هناك تغيير بشكل ما في الأوضاع الحالية العربية؛ طبقات كانت معنا سنة 1956اختفت! وتجربتنا أمامها تظهر فاشلة وغير ناجحة؛ يجب أن أعدل صورة تجربتي أمامهم. وقد ساعدني علي ذلك نكسات عربية؛ [إقصاء] بن بيلا. يجب أن تسير معي الجبهة الداخلية حين أدخل أي معركة عربية، ويجب أن يكون تأثيري في الخارج بنجاح التجربة في مصر.. موضوع اليمن، نجاح الثورة اليمنية ونكسة الثورة المصرية، ماذا نستفيد؟ ماذا نستفيد من ضرب السعودية في الجو الحالي الموجه الينا فيه كل الأسلحة للقضاء علينا؟ إن البلد استوعبت تجربة 23 يوليو.. واستوعبت كل انجازاتها، ولقد أصبحت البلد أكبر ممن عملوا 23 يوليو. يجب جذب الطبقة الوسطي في مصر وفي خارجها.
 
بعد قراءة هذه الملاحظات والانطباعات والحلول التي طرحها عبد الناصر علي ضوء الواقع المصري الحالي أسجل بعض ملاحظات..
 
أولا: أن عبد الناصر كرئيس للدولة كان في يده أدوات أكثر للتحرك السياسي والتفاعل مع الجماهير. فلقد أنشأ تنظيما سياسيا جديدا بعد الانفصال هو الاتحاد الاشتراكي العربي في 1962، بعد مناقشات موسعة مع جميع طوائف الشعب. وحاول فيه أن يتخطي مساوئ التجربة السياسية السابقة في الاتحاد القومي، وخاصة من الناحية الطبقية.
 
ثانيا: اهتم عبد الناصر بالإعلام وأداره في الأزمات بنفسه ـ كما اتضح من أوراقه ـ وحرص منذ قيام ثورة يوليو 1952 علي أن يعين وزيرا متخصصا يضع خطة محددة للإعلام، وكان بالتالي علي علم بتفاصيل سياسة الدولة من خلال حضوره مجلس الوزراء، واتصاله المباشر مع رئيس الدولة في كل وقت، وهو ما نفتقد اليه الآن. بل إن مشكلة الإعلام السياسي أصبحت أكثر حدة في الوقت الحاضر نظرا لوجود الفضائيات المختلفة ـ وبالذات العدائية منها ـ فهي وإن كان من الممكن أن تقدم تصور النظام السياسي في حل مشاكل الشعب، وترد بطريق مباشر وغير مباشر علي الشائعات الهدامة التي تنشرها القوي المضادة في الداخل والخارج، إلا أنها في الوقت نفسه ممكن أن تكون أداة مخربة في يد الآخرين.
 
ثالثا: شاركت أدوات التواصل الاجتماعي في صياغة الرأي العام، وتمكنت من التأثير علي تفكير عدد من الشباب، وأصبحت الدولة مطالبة بالدفاع عن نفسها في مواجهة هذه الأداة المدمرة التي لا يمكن الرقابة عليها.
 
نقاط للمناقشة: يتضح من كل تاريخ عبد الناصر ووثائق الفترة التي تولي فيها المسئولية، أن الحكم لم يكن سهلا، وأنه حتي يطبق مبادئ ثورة 23 يوليو واجهته معارك شديدة في الداخل والخارج. ففي الداخل واجه حربا شعواء منذ اليوم الذي تم فيه تحديد الملكية الزراعية بعد الثورة بأقل من شهرين؛ وذلك من جانب طبقة الاقطاعيين. وتكاتف هؤلاء مع الرأسماليين المصريين، عندما أكد رجال الثورة ضرورة منع الاحتكار وسيطرة رأس المال علي الحكم، وأن هدفهم الأساسي هو تحقيق العدالة الاجتماعية. أما في الخارج فكلنا يعرف مراحل الصراع ضد الاستعمار وضغوطه السياسية والاقتصادية، بل والعسكرية في 1956، 1967؛ وذلك من أجل كسر إرادتنا واستقلالنا السياسي، ومقاومتنا لمناطق النفوذ من حولنا.
 
والآن نحن نواجه بموقف مشابه وإن اختلف في صوره وأدواته.. فبعد ثورة 30 يونيو وتولي الرئيس السيسي المسئولية، اتبعت مصر سياسة مستقلة بحثا عن مصالحها، ودفاعا عن وحدتها الوطنية؛ مما عرضها أيضا للضغوط السياسية والاقتصادية.
 
أما في الداخل، فلم تتوقف حملات التشكيك من جانب تنظيم الإخوان المسلمين الذين ثار الشعب عليهم. وبالرغم من إقرار الدستور الجديد وانتخاب مجلس النواب، إلا أنه من الواضح وجود فراغ سياسي أسبابه متعددة، أهمها.. غياب حزب أو تنظيم سياسي يجسد مبادئ ثورة 30 يونيو. فبالرغم من ازدحام الساحة السياسية بعدد كبير من الأحزاب إلا أن معظمها غير واضح البرامج، قياداته ليست لها شعبية، وتلك التي وصلت الي المجلس النيابي لم تقم بأية مبادرة سياسية تميزها عن غيرها.
 
إن الوظيفة الأولي للحزب هي إعطاء المواطنين فرصة المشاركة السياسية، ثم التمكين من الاختيار السياسي من خلال الاحتكاك بالناس والقيام بالواجب الوطني؛ بما يحقق الأهداف الديمقراطية الحقة. فهل أي من الأحزاب الموجودة استطاع أن يعبئ الجماهير حول أي قضية في مصلحة الوطن؟! إذن ما هو البديل؟ أري أن يتقدم الرئيس السيسي ـ بعد دراسة ـ بإعلان إنشاء «حزب 30 يونيو»، وممكن أن يتم ذلك مباشرة أو بطريقة غير مباشرة عن طريق شخصية يثق بها، كما حدث في فرنسا بعد الانقلاب العسكري في 1958 وتولي ديجول الحكم؛ حيث تم تغيير الدستور وبدأت الجمهورية الخامسة الفرنسية.
 
وبالرغم من أن ديجول لم يرأس حزب «الاتحاد من أجل الجمهورية الجديدة» ولم يكن عضوا به، إلا أن زملاءه والمؤمنين به شكلوا الحزب الذي ساند سياسته ودافع عن مبادئه، وكان يشار اليه بالحزب الديجولي. وأعتقد أنه مجرد قيام حزب 30 يونيو سوف يحقق أغراضا عدة..
 
أولا: تشجيع المشاركة السياسية من جانب الجماهير. ثانيا: خلق التفاعل السياسي بين القيادة والقاعدة الشعبية. ثالثا: إعطاء الفرصة لقيادات جديدة لكي تبرز من خلال العمل السياسي. رابعا: تحفيز الأحزاب الأخري علي أن تجتهد سياسيا وتنافس الحزب الجديد. خامسا: تحقيق مزيد من الديمقراطية في نظامنا السياسي.
 
أعلم أن العملية ليست سهلة، ولدينا تجارب سابقة في التنظيمات والأحزاب السياسية وجهت لها انتقادات حادة، ولكن هل يوجد سبيل آخر؟!
 
إن التجربة الحزبية والتنظيمات السياسية في مصر ترجع الي أواخر القرن التاسع عشر، ومرت بمراحل عديدة كل منها له عيوبه، ولكن وجودها أثري الحياة السياسية وحقق مشاركة المواطن في واقع بلده حتي وإن لم تكن كاملة. إذن ليس معني ذلك أن نلغي فكرة التنظيم السياسي كلية! وهل إذا أساءت بعض مؤسسات الدولة أداءها نلغيها أم نعيد التنظيم ونتلافي العيوب؟!.
 
إن اعداءنا في الداخل منظمون منذ أكثر من أربعين عاما، ولهم أجهزة سرية، ويتلقون الدعم والأموال من الخارج، ونظامنا السياسي هو الوحيد الذي ليس لديه تنظيم يواجه به الحرب التي تم شنها علي مصر منذ ثورة الشعب علي الإخوان المسلمين في 30 يونيو.. وأؤكد أنها حرب شرسة تستهدف عقول أبنائنا ووحدتنا الوطنية.
 
وينبغي هنا تذكر الدور المهم الذي قام به الاتحاد الاشتراكي ـ بوحداته الأساسية المنظمة في الريف والمدن من إسكندرية الي أسوان ـ في تعبئة الجماهير لمدة ثلاث سنوات ونصف أثناء حرب الاستنزاف، هذا بالرغم من كل عيوبه وسلبياته والانتقادات التي كانت توجه إليه. وقد يقال: هل سنعود الي التنظيم الواحد؟!
 
الوضع الآن مختلف؛ فالساحة مفتوحة لأي عدد من الأحزاب، وثقتي بالشعب المصري لا حدود لها، فقد أصبح علي وعي كامل لأن يفرق بين السياسي المخلص والانتهازي، ولا ننسي أنه قام بثورتين في وقت قياسي.
 
إن المعركة لم تنته، ولننظر حولنا الي حال العالم العربي الآن؛ مفكك، ضياع دول قديمة بأكملها وتشريد أهلها، أصبح مسرح الحرب الجديدة بين الغرب والشرق، تنافس الدول الكبري علي إرث ثرواته.. إلخ.
 
وإذا كانت المخططات ضد مصر لمصلحة العدو الصهيوني قد أفشلها الشعب بوعيه وإقدامه، فقد تعلمنا أن المسألة ليست جولة واحدة وكسبناها! وإنما هناك خطط عدة تبادلية يطبقها العدو ولا يكل؛ إنها في النهاية مسألة مصالح خاصة أن النظام الاقتصادي العالمي في أزمة لا تبدو أي بشاير لحلها محليا. إن المتعارف عليه في العالم أن رئيس الجمهورية ـ أو رئيس الوزراء كما في بريطانيا ـ له حزب أتي الي السلطة عن طريقه، ويستعين به في تعبئة الشعب ومواجهة منافسيه ووضع برنامجه. وحتي في بريطانيا، استطاع حزب المحافظين أن يقيل ثاتشر ويعين مكانها جون ماجور في عام 1990، بدون إجراء انتخابات!
 
والمشكلة بالنسبة لنظامي 23 يوليو، 30 يونيو أن الثورة تعني التغيير الجذري، وكان الشعب قد عاني التجربة الحزبية في النصف الأول من القرن العشرين، ومن الحزب الوطني بعد ذلك. لكن نظام 23 يوليو لم يترك الساحة السياسية خالية بعد حله للأحزاب في 17 يناير 1953 ولجماعة الإخوان المسلمين في 14 يناير 1954، أقام جبهة سياسية هي هيئة التحرير وكان هدفه هو ضمان الوحدة الوطنية في مواجهة المحتل البريطاني، ثم أنشأ بعد ذلك الاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي، فأضافا الي التجربة دروسا يجب أن نعيها.
 
وقد كان من أهم أسباب هذا التغيير المستمر؛ صعوبة تكوين تنظيم سياسي من أعلي أي يرأسه رئيس الجمهورية. إن ذلك يدفع الانتهازيين والوصوليين الي المنافسة للانضمام لحزب الرئيس. لكن ليس معني ذلك أن نلغي فكرة التنظيم السياسي أو الحزبي المؤيد للنظام كلية. وأتذكر أن عبد الناصر عندما أنشأ الاتحاد الاشتراكي أراد في البداية أن يجعل عضويته محدودة، ولكنه قال في اجتماعه مع قادة حزب البعث السوري الذين جاءوا الي القاهرة للمطالبة بالوحدة في 19 مارس 1963: «في البداية كنا نفكر في تحديد عدد للاتحاد الاشتراكي 300 أو 400 ألف، ولكن عجزنا عن ذلك؛ والسبب أن البلد كلها تقول: نحن معكم! وفعلا تقدم 5 ملايين».
 
وفي رأيي أن قضية التنظيم السياسي لثورة 30 يونيو، واستمرارية مبادئها في الاستقلال الوطني والوحدة الوطنية والعدالة الاجتماعية، مرهون بإنشاء تنظيم سياسي يملأ الفراغ الموجود في المجتمع، ويقضي علي المخطط الداخلي ـ الخارجي الذي لم ينته، ولكنه يراهن علي التغيير بالتأثير علي الرأي العام؛ منتهزا فرصة الأزمة الاقتصادية والاحتكار الرأسمالي؛ محصلة أكثر من ثلاثين عاما من الركود والفساد!.
-الاهرام