"حماس" تحاول خلق ميزان رعب "محسن" حيال إسرائيل: مواجهة شاملة تلوح في الأفق

afb473bd9e189c4a2b1b31aea8d7362c
حجم الخط

جلب دخول أفيغدور ليبرمان وزارة الدفاع، في أيار الماضي، سلسلةً من التصريحات الكفاحية على لسان قادة «حماس». وحتى قبل التعيين المفاجئ جعل ليبرمان غزة مركز اهتمامه الأمني حين انتقد الاهداف المحدودة لحملة «الجرف الصامد»، ودعا المرة تلو الاخرى الى اسقاط حكم «حماس». وهكذا ميز ليبرمان نفسه عن نهج جهاز الامن منذ حملة «الرصاص المصبوب» والتي تحدد فيها هدف المواجهات العسكرية بلجم «حماس» وليس بالضرورة اسقاطها، خشية الفوضى على الارض، والتي ستنتقل نحو اسرائيل.
خلق تعيين ليبرمان رغبة لدى «حماس» في تثبيت ميزان جديد حيال القيادة الاسرائيلية. وهذا هو سبب التصريحات الكفاحية من جانب قادة المنظمة في الربيع وفي الصيف الماضيين. هكذا مثلا قال محمود الزهار، عضو القيادة السياسية لـ»حماس»: إن المنظمة ستتصدى لوزير الدفاع الجديد بروح متحفزة، بينما أشار اسماعيل هنية، نائب رئيس المكتب السياسي لـ»حماس»، الى أن وقف النار بعد «الجرف الصامد» سيشكل لـ»حماس» مجالاً للاستعداد للمواجهة التالية. وقال هنية: «نواصل بناء وتطوير قواتنا. وسنواصل حفر الأنفاق تحت الارض، هذه هي الطريق لتحرير القدس».
بعد أشهر من الهدوء النسبي في الصيف، انتظرت فيها «حماس» لترى ما هي النوايا العملية لاسرائيل، يبدو ثمة تصعيد مهم في غلاف غزة. فـ»حماس» تحاول خلق ميزان رعب محسن حيال اسرائيل، ولكنها تعطي الانطباع بأنه مثلما في 2014 تفشل المنظمة في فهم العقلية الاسرائيلية، ومن شأنها ان تدهور المنطقة الى حرب أخرى توقع مصيبة أخرى على سكان القطاع، وتجبر إسرائيل على أن تقرر اذا ما كانت معنية حقاً باسقاط حكمها مرة واحدة والى الابد.

تآكل تدريجي
لفهم الشكل الذي وصلنا فيه مرة اخرى الى حافة المواجهة ينبغي النظر إلى الواقع من زاوية نظر «حماس». منذ حملة «الرصاص المصبوب» أقامت المنظمة كما ترى ميزان رعب حيال اسرائيل، وبموجبه لا تعمل بشكل مباشر ضد اسرائيل من حدود غزة، سواء بإطلاق الصواريخ او بارسال الخلايا في الانفاق، بينما اسرائيل تمتنع عن هجمات مباشرة على اهداف المنظمة الاستراتيجية وعلى مسؤوليها.
تجري المواجهة بين الطرفين في ساحات بديلة وبقوى منخفضة. تدمر إسرائيل بمنهجية الانفاق الهجومية التابعة لـ»حماس»، وتعمل ضد بنيتها «الارهابية» التحتية في الضفة الغربية، بينما تسمح المنظمة بين الحين والاخر بإطلاق الصواريخ عن طريق إحدى المنظمات «العاقة» في القطاع كما تبادر الى عمليات في اراضي السلطة في الضفة. وهكذا تكسب «حماس» على حد نهجها مرتين: تضرب الجبهة الداخلية الإسرائيلية كما تشدد الضغط على محمود عباس. وتحقق «حماس» النقاط في الرأي العام الفلسطيني، وتخلق على حد فهمها روافع ضغط اخرى حيال اسرائيل.
هذا النهج، المتمثل بالتآكل التدريجي للوضع الراهن، لم يولد في غزة. فمن طوره كان حسن نصر الله، منذ التسعينيات وقبل الانسحاب الاسرائيلي من الحزام الأمني. ويؤمن نصر الله بان المجتمع الاسرائيلي هش وان تنقيط العمليات والانجازات العملياتية تدفعه الى اليأس والانسحابات. فالانسحاب من لبنان جعل «حزب الله» بطلا في العالم العربي، ودفع منظمات عديدة، وعلى رأسها «حماس»، لتبني «طريقة عمله».
وكما يذكر، فان المحاولة الاهم التي قام بها «حزب الله» لتغيير ميزان القوى  كانت عملية الاختطاف التي أدت الى بدء حرب لبنان الثانية في 2006. ووفقا لفهمه، قدر نصر الله بأن رد اسرائيل سيكون محدودا، وان نتيجة الخطوة ستكون تآكلا اضافيا في الوضع الراهن، تعزيزاً لـ»حزب الله» في لبنان، واثبات قيمة التنظيم أمام مسؤوليه الايرانيين وشركائه في دمشق.
ولكن الامور تدحرجت بشكل مختلف تماما. فحرب لبنان الثانية ثمة جدال جماهيري عميق في إسرائيل بشأنها، ولا شك أنه انكشفت فيها اخفاقات ثقيلة الوزن في استخدام القوة العسكرية وفي حماية الجبهة الداخلية. ولكن الحرب ألحقت ايضا ضررا لا مرد له بالطائفة الشيعية وببناها التحتية في جنوب لبنان، ونجحت في ردع «حزب الله» عن القيام بعمليات اخرى الى ان نشبت الحرب الاهلية في سورية، وغيرت نهائيا الاستراتيجية والاهداف لدى التنظيم. لقد أوضحت الحرب ضد اسرائيل لنصر الله بانه اخطأ في فهم آليات التفعيل الاسرائيلية؛ والدليل على التشويش الذي كان يعيشه «حزب الله» بعد 2006 كان إعلان زعيم «حزب الله» بانه ما كان ليسمح باختطاف الجنود لو كان يعرف بان هذا سيكون رد إسرائيل.
ما فوته نصر الله و»حزب الله» هو أن استخدام القوة الاسرائيلية هو ثنائي في جوهره: الامتصاص وضبط النفس حتى لحظة استخدام القوة المهمة والساحقة. وفسر «حزب الله» – وبعد ذلك «حماس» – فترة ضبط النفس كدليل على الضعف الاسرائيلي، وهكذا سمحا لنفسيهما التجرؤ أكثر فأكثر، حتى اجتياز الحدود. في اللحظة التي نشأ فيها محفز حقيقي، ما كانت لا سرائيل ولا خصومها يعرفون كيف يتوقعونه، فان المجتمع الاسرائيلي يتجند للجهد، وتنطلق المعركة العسكرية لرد واسع ومهم.
في نظرة أوسع يمكن القول ان الفهم الثنائي الاسرائيلي غريب على المنطقة العربية بشكل عام. فالعالم العربي يتصرف بفهم متعدد القنوات، مثل لوحة مئات الازرار التي تسمح بعلاقات دبلوماسية الى جانب استخدام «الارهاب»، المواجهة المحدودة، والتعاون. في هذه المنظومة كل تغيير مثل تغيير الاشخاص في وزارة الدفاع الاسرائيلية او تغيير الحكومة في القدس يؤدي بالخصم العربي الى فحص حدود الجبهة والى استفزازات صغيرة تستهدف تحسين المواقع او تحريك قواعد الوضع الراهن قليلا في صالحهم. أما اسرائيل من جهتها فمعنية بالامتناع عن المواجهة، ولكن ضغطة على الزر غير الصحيح تؤدي بها الى تفعيل شامل. وقد سبق لـ»حزب الله» أن فهم هذا الدرس ولكن «حماس» لم تفهمه بعد.

الظروف في طالح «حماس»
كم اسرائيل «حماس» قريبتان من المواجهة؟ كما أسلفنا، فانه لا يمكن توقع المحفز للعمل مسبقا. يحتمل ان يكون ثمة انحراف بضعة أمتار لمقذوفة صاروخية تنفجر وسط سديروت، وتؤدي الى اصابات في الارواح، هو كل ما يلزم لاخراج الجيش الاسرائيلي الى حملة اخرى في القطاع. ويحتمل أنه بالذات لان وزير الدفاع الجديد يفكر بجدية باسقاط «حماس»، فان طول نفسه حتى لحظة الخروج الى الحملة سيكون أطول، وذلك كي يصل الى المواجهة مع كامل الدعم الجماهيري والدولي. في هذه الأثناء يبدو أن الرد الواسع نسبياً لإسرائيل في القصف على القطاع أدى الى هدوء معين.
غير أنه طالما واصلت «حماس» قراءة اسرائيل من خلال المفهوم المغلوط لنصر الله (الذي لم يعد يؤمن به هو نفسه) فاننا نواصل السير نحو مواجهة شاملة، بالحظ فقط لم تقع حتى الان. تتباهى «حماس» بالخسائر التي نجحت في ايقاعها باسرائيل في حملة «الجرف الصامد»، ولكنها تميل الى نسيان الثمن الهائل الذي دفعته المنظمة وسكان القطاع على ذلك، ولا تقدر على نحو سليم القدرة الاسرائيلية على استخلاص الدروس والتحسن، على الاقل في المجال العسكري.
وفضلا عن ذلك، فان الظروف الدولية لنهاية 2016 تميل كلها في طالح المنظمة: مصر ترى فيها عدوا، قطر معنية بالعودة الى قلب الاجماع الدولي، الولايات المتحدة منشغلة بالانتخابات للرئاسة، والعالم كله فقد الاهتمام بالموضوع الفلسطيني. على هذه الخلفية، ليس واضحا أي انجازات موضوعية تسعى المنظمة الى تسجيلها حيال اسرائيل. من المعقول أكثر الافتراض بان استمرار الاستفزازات سيؤدي الى اجتياز الحافة ومواجهة شاملة اخرى، تجبي ثمنا معينا من اسرائيل ومن مواطنيها، ولكن تؤدي الى كارثة مطلقة في القطاع.
ان إخفاق «حماس» في قراءة الواقع يؤدي الى معضلة في الجانب الاسرائيلي. فمع التدهور الى الجولة التالية سيتعين على حكومة اسرائيل أن تقرر حتى متى ستكون مستعدة لمواصلة الموافقة على وجود حكم عاق، سائب، وعنيف على حدودها، اذا اراد يشعل المنطقة واذا اراد يوقف النار ويدخل في فترة تسلح وتطوير للقدرات الهجومية. الاحساس هو أننا نقترب من لحظة اجتياز الحافة في القدس.
عن إسرائيل درج القول انها «تستعد للحرب السابقة»ـ ولكن يبدو هذه المرة أن «حماس» بالذات تفكر الى الوراء بدلاً من أن تفكر الى الأمام. في التركيبة الحالية للكابنت السياسي الأمني، حين يكون صبر بلدات غلاف غزة نفد والجاهزية الهجومية للجيش الاسرائيلي تتحسن، يبدو أن الاشتعال التالي سيكون مهما ويغير الواقع أكثر من كل ما سبقه.