"النتوقراطية" العربية ..

ااحمد عزم
حجم الخط
أذكر أنّي مولت جزءا ما من دراستي للدكتوراه عبر العمل مراجعاً للكتب، لصالح صحف ومواقع إنترنت. وكان عصر الإنترنت قبل نحو خمسة عشر عاماً، ما يزال في بداياته، وفي بعض الحالات كنت أرسل المراجعات عبر الفاكس، أو أرسلها بريديا، وأحياناً أرسل "قرصا مضغوطا" (فلوبي ديسك)، ثم تطور الأمر إلى البريد الإلكتروني حصرا. وكان عنوان أحد الكتب التي راجعتها حينها هو "Netocracy"، أو ما ترجمته حينها إلى "النتوقراطية". 
 
وتنبأ واضعا الكتاب بعدد من الأمور، أهمها أن تصبح الأهمية الحقيقية للإنترنت عبر النخبة، فيما تتراجع الشعبوية "النتيّة". والواقع أن بعض تلك التوقعات سقطت الآن، فيما تحقق بعضها الآخر.
 
حتى سنوات قليلة، كنت إذا بحثت عن مراجعتي للكتاب، والتي نشرت من دون اسمي، ومن دون اسم مراجع، كما كان متفقا مع الناشر، كنت أجدها على مواقع منها "الجزيرة. نت". لكن يتعذر علي ذلك الآن. فالإنترنت ليست مكاناً حصيناً لحفظ الأشياء والعثور عليها، أو بكلمات أخرى: بقدر ما هي مكان للعثور على أشياء، فإنها مكان لإضاعتها. وهذه فرضية تنطبق على أمور اجتماعية وفكرية كثيرة، في عصر "النتوقراطية".
 
يجب أن أوضح أنّ الترجمة هي قياس على ترجمة "Democracy" إلى "ديمقراطية"، و"Bureaucracy" إلى "بيروقراطية".
 
ما قصده الكاتبان والفيلسوفان السويديان، ألكساندر بارد، وجان سوديرقفست، يجسده العنوان الكامل للكتاب: "النتوقراطية: نخبة القوة الجديدة وحياة ما بعد الرأسمالية"، ونشر بالإنجليزية العام 2002. إذ كانا يتوقعان أنّ أهمية "النت" ستصبح من خلال الشبكات الخاصة المتعلقة بمجموعات تتعامل مع بعضها، وتنعزل عن باقي عالم الإنترنت. ومن يجيد هذا التعامل سيشكل طبقة "النتوقراطيين" (على غرار الرأسماليين والبرجوازيين). 
 
وتوقعا أن طبقة "النتوقراط" ستتحكم بالشبكات العالمية للمعلومات، وتقود أشكالا جديدة من الاتصالات تسيطر على التمويل والقوانين، يشكلون نخبة رجال الأعمال والحكم الجديدة.
 
وتوقع الكاتبان أن الصحف المجانية والمواقع الشعبوية ستخسر مكانتها تدريجيا لصالح وسائل محصورة للأعضاء، ومجموعات إنترنت مغلقة ومتخصصة. ويقولان: "إن الشبكات المفتوحة التي نشأت بفضل التوسع الهائل للإنترنت، ستتحول إلى شبكات مغلقة أو ستختفي وتتحول لمكان لجمع نفاية المعلومات عديمة القيمة".
 
لم تصدق توقعاتهما تماما، فعصر الشبكات المفتوحة توسع. ومثلا، نشأت "ويكبيديا" (وكل ما يبدأ بلفظ "ويكي") ليشير لشبكات مفتوحة يساهم فيها من يشاء. وظهر "فيسبوك". بل إنّ هذا الأخير يفقد مكانه لدى الشبان والمراهقين، لصالح تطبيقات على الهاتف النقال، مثل "إنستغرام" و"سناب شات". وهذه المواقع أو التطبيقات "النتيّة"، جميعها تشكل مجمعات لنفايات المعلومات والأفكار، بقدر ما فيها أماكن للتفاعل البنّاء، وتفجرت عبرها (ليس بسببها) ثورات شعبية، كالربيع العربي، الذي فشل أيضاً. 
 
ربما صدقت تنبؤات الكاتبين من حيث وجود شبكات شبه مغلقة، أنشأت الإرهاب والتطرف، مثلما أسهمت في نشاطات علمية متخصصة. وهناك فعلا شبكات (قواعد بيانات) يكلف الاشتراك بها عشرات آلاف أو حتى مئات آلاف الدولارات. لكن بالمجمل، ما يزال مجتمع "النتّ"، لم يصل لمرحلة الاستقرار الذي تتوقف فيه التغيرات اليومية، لتصبح فيه نخب مستقرة، وقواعد عمل واضحة؛ أي تصبح جزءا خفيا أو ضمنيا مسلما به في الحياة اليومية. 
فما تزال الشبكة تأتي بالجديد، والأهم أنه ما تزال تتضمن المزيد من الفوضى، ولم تصل حد النخبوية، بل أسهمت كثيراً في حالة الشعبوية. وأسهمت في تقسيم المجتمعات. 
 
وهذا يتضح في العالم العربي، فلم يحصل أبداً أنّ الإنترنت أذاب الهوية العربية لصالح هويات عالمية، كما كان يخشى أعداء العولمة، بل إن وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات أدت إلى تشظي الهويات الوطنية، واستبدلتها بهويات فرعية طائفية وقبلية. وسمحت هذه الوسائل بتحول الهواجس والنكايات والمشاحنات الشخصية، إلى شيء علني يمكن تعميمه على نطاق أوسع نسبياً، أي تعمقت الحالة التي ذكرها بارد وسوديرقفست من إنتاج "مكان لجمع نفاية المعلومات عديمة القيمة"، من دون أن نعرف نخبا "نتوقراطية" حقيقية. 
 
بقدر ما أن الشبكة كسرت حواجز، بقدر ما صنعت أخرى؛ وبقدر ما أتاحت حرية وشفافية، فإنها أوجدت غوغائية وغثاء؛ وبقدر ما تواصل الناس اجتماعياً، بقدر ما نقلوا عداواتهم وكراهيتهم للعلن. 
 
يستحق مجتمع "النتوقراطية" دراسات كثيرة؛ فما تزال الشبكة تغير العالم على نحو يصعب الإحاطة به تماماً.