غُدّة للهَبل، ومطار للسومريين، وأشياء أخرى

عبد الغني سلامة
حجم الخط

في تصريح مثير للدهشة، وأثناء افتتاحه مطارا في إحدى محافظات الجنوب، قال وزير النقل العراقي "كاظم فنجان": "كان للسومريين مطار قبل سبعة آلاف سنة، وكانت تهبط فيه مركبات فضائية، وكانت الملائكة السومرية تستعمل هذا المطار...".
وفي تصريح آخر لا يقل دهشة قال الطبيب المصري، استشاري الطب النفسي "أحمد هارون": "إن في عقل المرأة غُدة تدعى غدّة الهبل، وهذه الغدة تفرز هرمون "الهطل" الذي يقضي على إنزيم الخجل، فتتصرف المرأة باندفاع دون مراعاة العادات والتقاليد حينما تصل مرحلة العشق"..
أما التصريح الأكثر غرابة فهو إعلان الإدارة الهندسية بالقوات المسلحة المصرية في شباط 2014، عن اختراع جهاز جديد يدعى "CCD" يقضي على فيروس الكبد الوبائي، وعلى "الإيدز" مرة واحدة، بحيث يحوّل الجهاز الفيروس إلى كفتة يتغذى عليها المريض. (نقابة الأطباء المصرية أحالت مخترع الجهاز اللواء إبراهيم عبد العاطي ومعه أربعة أطباء آخرين للتحقيق).
بمجرد سماع مثل تصريحات كهذه، على الفور ستتدافع جملة من الأسئلة في ذهن أي متابع: كيف صار هؤلاء ألوية في الجيش؟ وقبل ذلك، كيف صاروا أطباء؟ بمن فيهم طبيب "الهبل"؟ وكيف يأتمنهم الناس على حيواتهم؟ وكيف صار ذلك الكائن الفضائي وزيراً للنقل؟ يعني مسؤولا عن النقل الداخلي والخارجي، البري والبحري والجوي.. والفضائي!! وإذا غفرنا له شطحاته بشأن الكائنات الفضائية، فكيف نغفر له جهله بتاريخ العراق؟ فالسومريون بنوا حضارتهم بعد ألفي سنة على الأقل من التاريخ الذي ذكره "فنجان"..
هؤلاء، وغيرهم كثيرون.. ليسوا هم السبب في تخلفنا ووضعنا المأساوي؛ ما هم سوى ناتج متوقع لمسلسل طويل من التخلف، بدأناه قبل مئات السنين، ولا نعلم متى سنشاهد حلقته الأخيرة.. هُم إحدى علامات المرض الذي أُصِبنا به؛ أي مرض الجهل، منذ أن نبذنا العقل، لصالح النص، ومنذ أن صببنا اللعنات على العلماء والمفكرين والمبدعين والشعراء، واتهمناهم بالهرطقة والزندقة والفلسفة.. واستسلمنا لثقافة العنعنة.
منذ ذلك الحين، وبيئتنا طاردة للإبداع، وكارهة للتميز.. ومع ذلك ظلت أمتنا تنجب عباقرة ومخترعين ومبدعين.. ولكن إبداعاتهم ونجاحاتهم كانت تتحقق خارج حدودنا العتيدة، تحديداً في بلاد الغرب "الكافر".. على سبيل المثال (وهو مثال طازة): الدكتورة الأردنية "نور قموة" (33 سنة)، حصلت على جائزة (1.6 مليون جنيه استرليني) من مركز الأبحاث السرطانية البريطاني، مع 3 علماء آخرين حصلوا على جوائز مشابهة، لتطوير أبحاثهم المتعلقة بالأورام السرطانية المستعصية.. هناك في بريطانيا ستواصل "قموة" أبحاثها المبدعة، وتأمل أن تحدث نقلة نوعية في العلاجات المستخدمة لسرطانات الدماغ.. وعلى الأرجح، لو بقيت في الأردن، فإن أقصى ما ستحققه وظيفة طبيب مقيم في مستشفى البشير.. هذا إذا نجت من مضايقات المجتمع وتقاليده "الراسخة".. وللتأكيد على أن هذا الطرح ليس فيه أي مبالغة، لنأخذ حالة العالم المصري الراحل "أحمد زويل".. ولنتجاوز قصة أنه لو ظل في مصر لكان مجرد مدير مدرسة صناعية في القاهرة، وسيتم نقله تأديبيا لمحافظة سوهاج لأفكاره الغربية المستوردة، أو لأنه ناكَفَ السلطة... وتعالوا لنرى ما حصل معه بعد وفاته.. فهذا العالم الذي نال جائزة "نوبل"، وصُنِّف من بين أبرز العلماء في أميركا في القرن العشرين.. تحول إلى مجرد "كافر"، ولا تجوز عليه الرحمة.. بحسب تصريحات الشيخ "وجدي غنيم"...
الطبيب العراقي "عبد الهادي مشتاق"، كان أهم طبيب عيون في زمنه على مستوى العالم، كانت الأمم المتحدة والعديد من الدول بما فيها الصين تطلب استشاراته وتأخذ برأيه، كان لديه غرف كاملة مخصصة للطرود والرسائل التي تصله من مختلف أطباء العالم.. ولأنه لم يكن "بعثيا"، قضى أيامه الأخيرة موظفا في وزارة الصحة.. وممنوعا من السفر.. وأيضا، عالم الفضاء العراقي "عبد العظيم السبتي" كان يمكن أن يكون من كبار علماء الناسا.. لكن السلطات أبقته مدرسا للفيزياء لطلبة السنة الأولى في كلية الزراعة.. وهذان المثالان ذكرتهما لأني أعرفهما شخصيا.. وهناك عشرات، وربما مئات الأمثلة في العراق وبقية الدول العربية.. دفنت المجتمعات والأنظمة مواهبهم وعبقرياتهم.. أو قتلتهم معنويا، قبل أن تقتلهم فيزيائيا..
وإذا استثنينا حالات التفوق والعبقرية الموهوبة، فلا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن المجتمعات والأنظمة قضت قبل ذلك على كل الأسباب التي يمكن أن تحوّل آلاف بل وعشرات آلاف الحالات العادية إلى عبقريات فذة.. ليس لأن البلدان العربية تفتقر للبنية التحتية للبحث العلمي، ولا تُخصص سوى موازنات هزيلة ومضحكة لهذا الغرض وحسب؛ بل وأيضا لأن المجتمعات العربية صرفت كل جهودها واستهلكت كل طاقاتها ونزفت دماءها في معارك "بطولية" لإثبات من الأحق بالخلافة: علي أم عمر؟ ولأنها عاشت حاضرها (وستعيش مستقبلها) وهي محكومة من قبل أموات قضوا قبل مئات السنين، ولأنها ما زالت متمسكة بحكمهم.. مشدودة للماضي بأوتاد تضرب عميقا في التاريخ..
الجهل ليس مصيبتنا الوحيدة، لدينا الفساد أيضا، وبينهما علاقة قرابة لا تقبل الانفصام، ولا أتحدث هنا عن الفساد المالي، فهذا الموضوع أُشبع بحثا، أقصد الفساد الإداري، مثل وضع الرجل غير المناسب في المكان المناسب، والارتجال، والشخصنة، والتخبط، والإفتاء بغير علم.. وهذه كلها نتاج بيئة الجهل والفساد.. فعندما يكون توزيع الوزارات بناءً على المحسوبيات، أو استنادا إلى تقسيمات طائفية ومناطقية.. سنحصل بالضرورة على وزراء يتحدثون بكل جدية عن الكائنات الفضائية، وسنحصل على مسؤولين فاسدين وغير أكفاء.
وزير الثقافة الفلسطيني الأسبق "أبو السبح"، كتب على صفحته: "الدحية التي لا يخلو منها فرح من أشد الملوثات السمعية، وهي من أتلف صور الفن الغنائي، هي جعير فقط، وكلام أعجمي بدائي غير مفهوم". وهنا الموضوع ليس ذائقة شخصية تستسيغ نوعا من الفن دونا عن الآخر؛ الموضوع تهجّم على لون أصيل من التراث الشعبي الفلسطيني، والمشكلة أنه يأتي من وزير للثقافة، أي من الشخص الموكل إليه مهمة حماية التراث وصونه.
بدأنا المقال بغدة الهبل، وانتهينا بالدحية.. وهذا هو حالنا على كل حال.