صحيح أن أخوة العقيدة الدينية تجمع بين كل من إيران، تركيا والدول العربية، لكن فوارق العرق، القومية، الإثنية والطائفية تفرق بينهم، ثم بينهم وبين قوميات وطوائف أخرى عديدة تعيش في المنطقة، بعضها يعيش في حالة من التداخل بين هؤلاء، مثل الأكراد وهم مسلمون / سنة، لكنهم ينتمون لقومية لا هي عربية ولا تركية ولا فارسية، وهناك الأمازيغ بين العرب، ثم الدروز والأقباط، والعديد من الطوائف، كذلك هناك عرب يخضعون للاحتلالين: الإيراني، في عربستان أو الأهواز، والتركي في لواء الإسكندرون السوري.
مع بزوغ ما يسمى بالصحوة الإسلامية، والتي بدأت مع ثورة الخميني على نظام شاه إيران في العام 1979 وظهور المقاومة الشيعية في جنوب لبنان، وبعد نحو عشر سنوات من ذلك مع انهيار جدار برلين، وظهور الإسلام الجهادي / السني، بدأ الإسلام السياسي يحقق تقدما في معظم الدول العربية وكذلك تركيا، وفي الدول التي لم يصل لسدة الحكم فيها، على تعدد وتنوع الإسلام السياسي بين جماعات جماهيرية مثل الإخوان الذين اندفعوا للسلطة عبر الانتخابات، كما حدث في تركيا، فلسطين، تونس ومصر، وقبلها الجزائر، وبين جماعات جهادية وصلت للحكم كما حدث في أفغانستان، أو حكمت مناطق من العراق وسورية وليبيا واليمن، بعد إسقاط أنظمة تلك الدول، لذا فإن التنازع ظهر في المنطقة، مع تطبيق ما يسمى بالفوضى الأميركية الخلاقة، منذ مطلع العام 2011.
مع مرور الوقت، خاصة خلال السنوات الخمس الأخيرة، وبعد سقوط أكثر من نظام "قومي" عربي، في العراق، ليبيا، اليمن، تباعاً، ومع ما تركه هذا من ضعف عام عربي، بدأت أطماع كل من إيران وتركيا في الظهور علنا، خاصة مع "توافق" مصالحهما مع مخطط الغرب، في تبرئة إسرائيل من الصراع في الشرق الأوسط وتحويله إلى صراع طائفي، يكون محتواه الأهم الفرز بين اكبر طائفتين في المنطقة وهما طائفتا: السنة والشيعة، حيث كانت ساحة هذا الفرز، هي كل من العراق وسورية، وهذا أيضا شكل ساحة مفضلة أو نموذجية للغرب، حيث يتخلص من نظامي دولتين طالما شكلتا على مر التاريخ احد أهم مراكز القوة للقومية العربية.
محاولة السعودية مع مصر الإبقاء على البيت العربي مغلقا أو كمحور إقليمي يواجه ثلاثة محاور، جميعها لها أطماع تستند إلى ادعاءات "تاريخية" وهمية كما هو حال إسرائيل، أو طائفية كما هو حال كل من إيران وتركيا، ذلك أن الفصل الجديد من الحرب الباردة وجد ضالته في سورية / العراق، فيما وجدت الدول الإقليمية فرصتها في "تحييد" مصر والسعودية من خلال إلهاء الأولى بمشاكل اقتصادية داخلية، وأمنية في سيناء وحتى مائية مع إثيوبيا، والثانية في مط الحرب في سورية دون حسم أكثر من خمس سنوات لاستنزاف المال الخليجي، ثم في اليمن، حتى بات مصدر القوة السعودي / الاقتصادي مهددا بالإفلاس بعد سنوات قليلة!
رغم كل ما يمكن أن يقال عن الطابع المسرحي لمعركة الموصل، ولكل ما رافق أصلا ظهور "داعش" في العراق وسورية، مترافقا مع فصول حرب لا تتوقف لتفتيت العراق وسورية، وليس فقط من اجل إسقاط نظاميهما، هذا التفتيت الذي سينتهي بفرز طائفي تام، يضع حدا للتداخل والتعايش الذي كان بين سنة وشيعة العراق وأكراده، وبين سنة وعلوية ودروز سورية، وحيث أن شيعة المنطقة لهم عنوان واضح لا يختلفون عليه وهو المرشد الأعلى في طهران، فإن السنة تنازعوا بين محورين: عربي وتركي.
القادة العسكريون والأمنيون الإيرانيون، وكذلك قيادة حزب الله الشيعي اللبناني، لا يخفون، بل لا يترددون عن إعلان تدخلهم في كل الدول العربية من البحرين لليمن مرورا _ بالطبع بالعراق وسورية ولبنان، وصولا إلى نيجيريا، وتجاوز ما يجمع العرب من أواصر القومية والوطنية باعتبار أن كل منطقة يسكنها شيعة، إنما هي من تبعيتهم أو من ممتلكاتهم، كذلك تتصرف الحكومة التركية على اعتبار أن كل حركة أو جماعة إسلامية سنية، بل وحتى الشعوب المسلمة / السنية أينما كانت إنما هي جاليات مسؤولة منهم، وتجاوزوا دساتير وحدود الدول المستقلة من مصر إلى فلسطين، إلى سورية.
وإذا كانت إيران قد بدأت ما يسمى بتصدير الثورة منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، حيث خاضت حرب الثماني سنوات مع العراق بهدف تحقيق هدف مشترك مع إسرائيل والغرب، رغم ادعاء العداء اللفظي معهما، لأن العراق كان يشكل حصن القومية العربية في وجه توسعها جنوبا وإعادة مملكة المناذرة لإمبراطورية فارس، فإن تركيا التي كانت تنظر بعين الحسد لامتلاك العرب للنفط، خاصة في شمال شرقي سورية وشمال غربي العراق، وصارت مع حكم الإسلاميين تتطلع لإحياء ممتلكات الدولة العثمانية.
وقد كشفت معركة الموصل بوضوح عن ما يفكر فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حين قال يوم الأحد الماضي: إن الموصل وكركوك (حيث النفط) كانتا تابعتين لتركيا، وإن الغرب منع تركيا من أن "تفعل" شيئا للعراق وسورية، حيث طالب صراحة بتعديل الحدود حسب اتفاقية لوزان العام 1923!
هكذا العرب جميعا وبالجملة يجدون أنفسهم الآن بين نار تركيا ورمضاء إيران، حيث ينحاز بعضهم لهذه أو لتلك، فيما ينسى الجميع الفك المفترس القابع وراء الباب والذي ينتظر أن يأكل الفرس والأتراك والعرب بعضهم بعضا، لينقض على ما سيتبقى منهم، فيما بعد، ويقيم حلما وهميا خرافيا، ربما لا يتوقف عند حدود النيل والفرات!
مقتل 5 أشخاص في جريمة إطلاق نار في الجليل
27 سبتمبر 2023