فـرصـة ذهـبـيـة أمـام إسـرائـيـل لـحـل مـعـضـلـة غـزة

5a7f8d5d87493a7a2f945c6da7b2b50b
حجم الخط

 قد تكون المقابلة التي منحها وزير الدفاع، أفيغدور ليبرمان، لصحيفة «القدس» الفلسطينية، القول الاكثر أهمية له منذ تسلم منصبه قبل نحو نصف سنة. يمكن الجدال في الكثير مما قاله، ولكن لاول مرة منذ سنين يحدد زعيم اسرائيلي ما هي سياستنا تجاه قطاع غزة. «لن نحتل غزة مرة اخرى، لن نستوطن فيها من جديد، ولن نبادر ضدها بحرب أخرى»، قال. وعلى خلفية الغياب التام لكل سياسة من جانب هذه الحكومة فإن هذا قول منعش.
على مدى عقود تعاملت اسرائيل مع قطاع غزة كالحلم السيئ، على امل ان نستيقظ ذات صباح ونتبين أنه انتهى. حكومات إسرائيل على اجيالها تجد صعوبة في صياغة جواب على سؤال أي نوع من العلاقات نريدها مع الجار الصغير، المكتظ والمعادي من الجنوب. وحتى الراحل ارئيل شارون لم يعرف كيف يحدد العلاقات التي يريد أن تسود مع القطاع بعد «فك الارتباط»، باستثناء توقع الهدوء. ومن هنا لعله نشأت بعض الاخطاء التي ارتكبت في عملية الانسحاب، مثل حقيقة أننا تركنا لغزة سيطرة على الحدود البرية مع مصر، الامر الذي أتاح التعاظم الدراماتيكي لـ»حماس».
قول ليبرمان هو رد جلي وواضح على كل من يبكي «فك الارتباط» وعلى كل اولئك الذين يشتاقون للايام التي حكمنا فيها غزة. هذا هو المكان للتذكير بان الاقامة في غزة جبت في الأعوام 2000 – 2005 حياة 25 اسرائيليا كل سنة، معظمهم جنود. ثمن أعلى بكثير مما جبته غزة في 11 سنة منذ انسحبنا منها، وذلك رغم تعاظم «حماس» ورغم التفاقم الدراماتيكي في تهديد الصواريخ.
إقامة 8 آلاف اسرائيلي في قلب القطاع المعادي كانت دوما غير منطقية من ناحية أمنية ووطنية. ولكن ابتداء من العام 2000، اصبحت المستوطنات هناك أمرا غير أخلاقي أيضا، سواء تجاه المستوطنين أنفسهم أم تجاه القوات التي كانت تحميهم. فالحياة في بلدات تحرث الدبابات حقولها بلا انقطاع، وكل سفرية للمشتريات أو للنادي تتطلب تنظيم قافلة محصنة بشدة، جعلت الاستيطان في غزة عبئا هائلا وعديم الجدوى على اسرائيل.
وبالطبع فانه حتى بعد الانسحاب وسيطرة «حماس»، بقيت غزة عبئا أمنيا، ولكن فك الارتباط لم يستكمل أبدا. فمن جهة، منحت إسرائيل غزة معبر حدود بريا الى مصر، ومن جهة اخرى فرضت عليها اغلاقا بحريا وجويا، ما ترك اسرائيل هي المسؤولة عن مصير من اصبحوا حتى الآن مليوني نسمة. وكل صباح تواصل اسرائيل ادخال الف شاحنة وتوريد احتياجات من هو عدو معلن لها: الطعام، الوقود، الطاقة، الاسمنت الذي يوجه الى الانفاق والحديد الذي يوجه الى انتاج الصواريخ.
بعد ثلاث جولات من القتال ومع تغير الساحة الاقليمية، فهموا في «حماس» بان ليس لديهم الكثير مما يكسبونه من جولة أخرى. وهم لم يكفوا لحظة عن التسلح، ولكن في السنتين اللتين انقضتا منذ «الجرف الصامد» يخرجون عن أطوارهم كي يوضحوا لاسرائيل بانه ليس لديهم أي مصلحة في استئناف القتال. فهم لم يطلقوا صاروخا واحدا نحو اسرائيل في هذه الفترة. وتقريبا في كل واحدة من الـ 42 حالة من حالات اطلاق النار التي وقعت عملوا على اعتقال مطلقي النار.
ان الضائقة المتعاظمة في غزة، والتي حسب الامم المتحدة ستكف عن أن تكون مناسبة لسكن الانسان بعد أربع سنوات، تدفعهم ليبحثوا عن سبيل يضمن وجود ما يسمونه «المشروع» – السيادة الوحيدة لحركة الاخوان المسلمين في الشرق الاوسط (وهم لا يعدون تركيا ضمن هذا الاحصاء). وعليه فانهم معنيون بترتيب مع اسرائيل، حتى لو جاء بثمن انقسام الحلم الفلسطيني بين غزة والضفة الغربية.

سنغافورة الشرق الأوسط
يخيل لي أن ليبرمان أيضا يفهم عدم الجدوى في جولة قتالية اخرى في غزة. حين كان وعده الانتخابي تصفية اسماعيل هنية لا يزال يطارده اضطر ليهدد في المقابلة بان «الحرب التالية في غزة ستكون ايضا الحرب الاخيرة لـ(حماس)». ولكن في الساعات الطويلة التي استثمرها في دراسة القطاع منذ تسلم مهام منصبه، يعرف هو ايضا بان «حماس» مغروسة عميقا في المجتمع الغزي، في القلوب وفي العقول. واقتلاع «حماس» من غزة هو مهمة صعبة، طويلة مع أثمان ليس مؤكدا ان اسرائيل معنية بدفعها.
ولكن من لم يتجرأ حتى الآن على أن يهمس بفكرة إقامة ميناء في غزة، ثبت في هذه المقابلة صيغة جديدة: التجريد مقابل الإعمار، ميناء ومطار. هذه الصيغة هي بالطبع عليلة ولن تصمد في أي اختبار عملي. فلا تجريد في الشرق الاوسط، لم يكن ولن يكون. لا احد في هذه المنطقة يضع سلاحه ويعتمد على طيبة قلب الجار. وحتى عندما وقعنا على اتفاق سلام مع مصر لم نتوقف عن تدريب الجيش الاسرائيلي على القتال ضدهم، وهم لم يتوقفوا، حتى اليوم، عن الاستعداد للحرب ضدنا. ولكن في اقوال ليبرمان يوجد على الاقل قول سياسي واضح – المصلحة الاسرائيلية هي أن تزدهر غزة، او على الاقل ألا تذوي من الجوع والفقر.
بشكل مفعم بالمفارقة تحدث ليبرمان عن رؤيا تصبح فيها غزة «سنغافورة أو هونغ كونغ» الشرق الاوسط. وهو يؤمن بهذا تقريبا مثلما يصدق بنيامين نتنياهو. كل من يعرف غزة والمجتمع الغزي يعرف أن هناك حاجة لاستيراد الكثير من السنغافوريين وتصدير الكثير من الفلسطينيين لتحقيق هذه الرؤيا. ولكن الغزيين سيبقون الى الابد جيراننا، وهم لن يختفوا الى أي مكان، واذا كانوا جوعى وعديمي الأمل فاننا سنلقاهم على أعتاب ابوابنا.
الآن توجد لحظة إرادة حيال غزة وفرصة لن تستمر الى الأبد، لرفع العلاقات مع القطاع الى مستويات أخرى. نصف وزراء «الكابنيت» باتوا يفهمون بان هذه فرصة ذهبية: التحرر نهائيا من المسؤولية عن مصير غزة، تثبيت انقسام الفلسطينيين بين كيانين، وربما ايضا الابعاد الحقيقي للحرب القادمة. ليس لدى أحد أوهام – «حماس» كانت وستبقى عدوا مريرا لاسرائيل. ولكن هذا عدو معني اليوم بهدنة طويلة الأمد، ووقف النار يتم مع الأعداء.
ينبغي لنا أن نكبر وأن نهجر القول الصبياني «نحن نتحدث فقط مع من يعترف بنا كدولة يهودية». دولة اسرائيل القوية لا تحتاج لاسماعيل هنية كي يحدد هويتها. هنية هو عدو مرير، ولكنه جار، وعندما تكون ثمة فرصة لحل مشكلة مع الجار بدون عنف فمن المجدي فحصها.
أن نقاتل غزة أمر ممكن من ناحيتنا دوما. غزة الفقيرة وعديمة الخلفية للعالم لن تكون تحديا عسكريا مهما لاسرائيل. فهم لن يتمكنوا ابدا من هزمنا، الانتصار علينا، او احتلالنا؛ في أقصى الاحوال يمكنهم أن يؤلمونا. اسرائيل، في كل لحظة يمكنها أن تهزمهم. ولكن الآن توجد نافذة مفتوحة تسمح بترتيب العلاقات معهم، على الاقل للسنوات القادمة، ومن المجدي استغلالها قبل أن تغلق.