يقول القدير أنيس منصور "كل الناس تُحب الماضي، فقد كانوا صغارا"، وجدتني أتوقف كثيرًا عند هذه الجملة؛ لأنها لمست جانبًا مُظلمًا بداخلي أحاول جاهدة منذ فترة أنْ أتجاهله، لكنه يأبى التجاهل ويُصر على الخروج إلى النور، ليصرخ، وربما يتحسر على زمنٍ ولّى.
كانت النفس فيما مضى لا تعبأ بأي شئ – سوى - أنْ تقوم بما تهوى فقط، فلا قيود ولا موانع، ولا "لاءاتٍ" كثيرة تُفقدها بهجة ما تعمل، كانت الحياة أقل تعقيدًا، وأكثر بساطة، فأبسط التفاصيل قد تُدخل عليك السعادة دون سببٍ واضح، المهم أنك راضٍ، قانع، لا تُغريك أشياء ولا تستفزك أمور تقلب حياتك رأسًا على عقب، وتأخذ منك راحة بالك.
لم يكن النوم عزيزًا، لم تكن الراحة مفقودة، لم يكن التفكير أكبر همومك، لم يُنغص عليك التخطيط لمُستقبلك معيشتك، لم يؤرقك كيف ستكسب رزقك وهل سيُنافسك عليه أحد؟!، كنت تَحيا وكفى، بلا صراعاتٍ داخلية أو خارجية مع الآخرين، نعم لم نكن نهتم بشئ غير أننا بخير، نحن ومن نُحبهم.
كانت هواياتنا مُتعددة، وساعات اليوم لا تَكفيها من كثرتها، كان نشاطنا واضحًا، فلم نكن نهدأ أو نستقر في مكانٍ، نعشق التغيير، والترحال، نتواصل مع العديد من الأصدقاء بإمكانيات محدودة، لكنها كانت من أمتع اللحظات التي تُقربنا منهم؛ فبمجرد أنْ تَبذل جُهدًا حتى تصل لشخصٍ ما لتتحدث معه، لَهو في حد ذاته مُتعة لا تُضاهيها مُتعة، وفي نفس الوقت دليل كبير على اهتمامك بهذا الشخص، وأهميته لديك، كانت اللمة أسلوب حياة، في بيتك، أو في رحلاتك ولا غنى عنها.
كانت مشاعرنا خالية من أي تزييف، صادقة، نقية، ولا تتواجد أبدًا بين بينين، فإما الحب أو اللاحب، لو تحدثت معك فأنا أرغب في ذلك دون أي مصلحة، وإذا لم أرغب فاعلم جيدًا أنك لست ممن يستهويني الكلام معهم، حتى لو كنت ذو نفوذ، وسُلطة، كانت تفاصيل الحب الرقيقة تمنحنا دفئًا لا مثيل له، رسالة مكتوبة، مكالمة هاتفية نسمع فيها صوت من نُحب، لقاء يجمعنا بهم، هدية يُرسلونها لنا، أشياء تبعث على السعادة مع أنها لا تُكلف شيئًا، لكنّ قيمتها في معناها لا في ثمنها، حتى كلمات الأغاني التي كُنا نسمعها، كان لها مذاقًا خاصًا، ومع كل حرف فيها كان لنا ذكرى ما.
كنا نعيش حالة نشتاق لها جدًا اليوم، فالآن لم يَعد كما كان، وحالنا أصبحنا نتحسر عليه، كُلما أغلقنا علينا أبواب غُرفنا، افتقدنا نفسنا التي "كانت" وسنظل نفتقدها، إلى أنْ يقضي الله أمرًا كان مفعولا.