لا أعرف شاعراً خرج من رحيق القرية إلى فضاء العالم ليعيد قراءة القرية كما فعل الشاعر الراحل الأبنودي.
ولا أعرف شاعراً حمل على أكتافه على مدار ما يقارب نصف قرن من الزمن عبقرية الغلابه، مؤمناً بها ومخلصاً لرؤيتها وفرحاً بقدرتها وحزيناً لثقل وطأتها كما كان الأبنودي.
لا تكمن أهمية وعبقرية الأبنودي في أنه تتلمذ على يد الناس الغلابا، وإنما تكمن هذه الأهمية في أنه (أي الأبنودي) أفنى ما يزيد على ثلاثين عاماً وهو يجمع ويوثّق لسيرة أبي زيد الهلالي.
أظن أن الأبنودي في مغامرته هذه أراد أن يؤكد عبقرية الناس الغلابه؛ ذلك أن المستشرقين والمتأغربين على حدٍّ سواء اعتقدوا أن الشعر العربي، بغضّ النظر عن كونه بالفصحى أو بالعامية، «اعتقدوا» دائماً أن الملحمية ليست من خصال الشعر العربي وأن «هذه» الملحمية هي واحدة من علائم «تفوق» الشعر الغربي، وهو الذي دحضه الأبنودي من خلال إعادة صياغة وتوثيق ملحمة السيرة الهلالية.
لم يكن لأحدٍ غير الأبنودي أن يضطلع بهذه المهمة الشاقة ذلك لأنه وُلد في قريةٍ تتفوق بالغناء الشعري، وعاش في بيئةٍ تنظم الشعر والأغنية بالسهولة التي يعملون بها في الأرض ويديرون بها الترع والسواقي.
عندما «اتجه» الأبنودي إلى الشعر بالعامية كان خياراً واعياً باعتبار العامية هي صلة الوصل العضوية بين قراءة تاريخ الناس من جهة وبين وعي الناس لقيمهم ومصالحهم وتطلعاتهم من جهة أخرى، واستطاع الأبنودي بعد التحول إلى العامية أن يتصدر مشهد الأغنية الوطنية، وأن يتصدر مشهد الأغنية التراثية، تماماً كما تصدر مشهد الدفاع الشعري عن ثورات مصر وأمجاد مصر وعروبة مصر والانتماء العميق لهذه العروبة وقضاياها.
استطاع الأبنودي أن يكثف مصر في قريته «أبنود» واستطاع أن يرى في أبنود التاريخ الحافل بالبطولة والحكمة والصبر على مدى الوطن المصري، وانتقل الأبنودي في كل خنادق المعركة المصرية الطويلة، معركة التحرر والحرية والبناء، ومعركة الدفاع عن الوطن والقضية، دون أن يتخلّى للحظةٍ واحدة عن مشروعه الأكبر وعن حلمه الشجاع بإعادة كتابة ملحمة السيرة الهلالية.
تصوّروا أن شاعراً لم يكن أبداً ميسور الحال، وعاش مرارة الاعتقال السياسي على يد نظام عبد الناصر، دافع عن ثورة عبد الناصر وعن عبد الناصر نفسه وعن كل لبنة وضعها عبد الناصر في مشروع إعادة بناء الوطن المصري...!!
وتصوّروا أن الأبنودي انتصر لعبد الناصر بعد أكثر من أربعين عاماً عندما وصل إلى الحكم في مصر من اعتقد أن الفرصة باتت سانحة للمسّ بعظمة عبد الناصر وزمن عبد الناصر وقيادة عبد الناصر على الرغم من أن عبد الناصر نفسه هو الذي كان قد أمر باعتقال الأبنودي!!
ذلك أن الأبنودي كان وطنياً غيوراً، وكان قومياً إلى أعلى درجات الإيمان بوطنه الكبير وأمته العريقة، وكان إنساناً مرهف الحس وعظيم الإحساس بأوجاع الشعوب وآلامها وقضاياها.
المعلم الكبير للأبنودي كانت المرأة المصرية في القرية، المرأة التي تتصف بالحكمة والشجاعة والقلب العامر بالحب والحنيّة والشعر. المرأة التي تعلم الصبر نفسه دروساً في الصبر، والمرأة التي تعلم الشجاعة كيف تكون الشجاعة، والمرأة التي يفيض فؤادها بأجمل آيات الحب والجمال والإفاضة الروحية في أرقّ صورها الإنسانية.
الأبنودي واحد من الشعراء الذين أبدعوا في تحويل الهمّ والوجع إلى شعر ساحر في بساطته وزاخر بالصورة الموشّحة بأجمل ما في القاموس الشعبي من كنوز اللغة.
كان الأبنودي الساخر المستعصي على الهزل، والساحر المستعصي على التقليد أكثر شعراء العامية المصرية معرفةً ودرايةً وإحساساً بنبضِ الفلاحين وبعلاقتهم بالأرض والشجرة والسنبلة. وكان أكثر الشعراء التصاقاً بآلام الفلاح ومعاناته وصبره، ولكن الأهم من ذلك كله أن الأبنودي كان أكثر الشعراء المصريين قرباً منهم ومعرفةً بأدقّ تلابيب منسوجهم الثقافي.
استطاع الأبنودي أن ينفذ برؤيته الناقدة الثاقبة إلى أعماق الروح الثرية لذلك الفلاح الأزلي الذي ورث على مدار آلاف السنين الزراعية روح العلاقة العميقة والخالدة بين الأرض والإنسان على ضفاف النهر العظيم.
والأبنودي بهذا المعنى كان شاعر التراث الشعبي وشاعر اللغة المحكية وشاعر القرية والصعيد، وشاعر الثورة ومعارك الوطن المصري، ولكنه الشاعر الفيلسوف والفيلسوف الأول للغناء الشعري أو للشعر الغنائي، وهو كان دائماً الأقدر من بين أقرانه من عظام شعراء العامية على تغطية مساحة التراث في هذا الشعر، وعلى تغطية دور الفلاح وحنكته في صناعة وإبداع ذلك التراث.
وإذا كانت اللغة العامية هي في النهاية منحوتة من الفصحى (وهذه فرضية أقوى من غيرها) فإن الأبنودي أدرك تلك العلاقة مبكراً وربما هي التي قادته إلى مشروع السيرة الهلالية، ذلك أن السيرة ليست إلاّ الصياغة الشعبية للملحمة التي هي بالأساس شعر محوّر عن الشعر الأصلي والذي كان بإحدى لهجات الفصحى في أغلب الظن.
يُعتقد على نطاق واسع أن النسخة المصرية للسيرة الهلالية هي الاغنى والأشمل، وقد اكتشف الأبنودي ذلك بعد أن طاف في الأرياف المصرية كلها وبعد أن قارن النسخة (إذا جاز التعبير) بالنسخ المغاربية والشامية، حيث أنه تم «توطين» السيرة في الصعيد المصري على نحوٍ كبير، كما تمت إعادة «جبلة» السيرة بالقيم التي تسود الثقافة الشعبية المصرية في الأرياف. فقط الأبنودي كان يمكنه خوض غمار هذه التجربة الإبداعية ذات الطابع الاستراتيجي في حقل الثقافة العربية.
وعندما يتعلق الأمر بفلسطين فقد كان الأبنودي فلسطيني الهوى والفؤاد، وإذا كانت دمعة رجل الصعيد عصيّة دائماً وفي أكثر المواقف صعوبةً وإيلاماً وحزناً فقد كانت دمعة الأبنودي على فلسطين سهلة منسابة كلما ذكرت أمامه أو كلما ألمّ بها من ويلات، أو حتى كلما أقدمت على فعل البطولة في ملحمة الكفاح الوطني على مدار القرن كله.
كان الأبنودي يدافع عن فلسطين ظالمة أو مظلومة، وكان يحميها تماماً كما كان الكفاح الفلسطيني يهدي الأبنودي إلى ضالته الدائمة حول بطولة الشعوب وعبقريتها، وحول السياج الثقافي الحامي والواقي لتلك البطولة.
وإذا كانت فلسطين قد كرّمت الأبنودي ووشّحته بجائزة محمود درويش، فذلك لأن الأبنودي كان قد كرّم فلسطين على مدى عمره الشعري العظيم.