غرق العرب بدمائهم فضاع منهم حاضرهم وتاهوا عن مستقبلهم!

talal-salman-200
حجم الخط

العالم يتقدم على مدار الساعة. بل إن الساعة لم تعد وحدة قياس، بعدما اعتمدت الدقيقة، بل حتى الثانية أساساً للحساب مع التقدم العلمي الباهر الذي أنجزه الإنسان فصنع به هذا العالم المذهل في سرعة تطوره وابتكاراته التي تعيد تشكيل حياتنا.
أما العرب، كدول وكشعوب، فيتراجعون على مدار الساعة، مع استثناءات تشمل مجاميع من المبدعين، علماً في مختلف المجالات، وفناً في مجال الموسيقى والغناء والرسم والنحت، بل وفي مجال الابتكار والاختراع والتجديد. لكنها تبقى حالات فردية، والمبادر إلى استثمارها في الغالب هو الأجنبي الذي «يشتري» مواهبنا الشابة بجنسيته غالباً، التي يرون فيها امتيازاً ذهبياً، أو بالذهب مباشرة، مستغلاً عدم اهتمام حكوماتهم بهم، بل تجاهلها لهم و «اغتيالهم» بالبيروقراطية والإهمال.
كان هذا قبل تفجر أقطار عربية عديدة بالانتفاضات التي واجهتها الأنظمة الديكتاتورية بالقمع، فتحولت - أو كادت - إلى مشاريع حروب أهلية. هكذا تم إغراق «الثورة» أو «الانتفاضات» أو حتى تظاهرات الاحتجاج بدماء المنتفضين والمحتجين الذين لم يحمل أي منهم سلاحاً، ولا هم اعتدوا مجتمعين على قوات الجيش أو حتى على الشرطة، فضلاً عن «البوليس السري».. وبعضهم ما زال على الأرجح في السجون حتى اليوم.
تم تبديد الأحلام الوطنية والقومية. بل إن هذه الأحلام كادت تتحول إلى كوابيس، وصارت موضوع تندر وتنكيت وأسباباً للتشهير بأصحابها. فالحديث عن العروبة، مثلاً، فضلاً عن الطموح إلى الوحدة العربية، صار أشبه بحديث خرافة. أما الوطنية فهرطقة أو تعصب، وطلب الجنسية الأجنبية، الأميركية تحديداً، لم يعد مدعاة للتأنيب أو اللوم بل صار من المفاخر بالتميز والفرادة.
أما الجديد إلى حد الاستثناء فهو العمل على تحويل المعارضة إلى واحد من أمرين كلاهما مر: إما الحرب الأهلية وإما الفتنة الطائفية. وكلاهما يؤدي إلى خراب البلاد وضرب الوحدة الوطنية لشعبها وفتح الباب أمام التدخل الخارجي، وخسارة الاستقلال ووحدة الشعب والكيان السياسي.
إن أربع دول عربية، على الأقل، هي العراق وسوريا وليبيا واليمن، تكاد تندثر في غمار حروب تختلط فيها الطوائفية والمذهبية والعنصرية، فيؤدي ذلك جميعاً إلى تمزيق وحدة الشعب، ومن ثم الكيان السياسي. وفتح الباب أمام التدخل الخارجي (الذي يشمل بالضرورة إسرائيل، بل لعل إسرائيل هي في صلب أسباب الفتن فضلاً عن كونها المستفيد الأول والأخطر منها جميعاً).
• إن العراق يعيش منذ ثلاث عشرة سنة طويلة مجموعة من الحروب: كانت أولاها الحرب الأميركية عليه بذريعة طغيان صدام حسين، والتي دمرت دولته وحلت جيشه ونهبت كنوزه العلمية والثقافية، بما في ذلك دار الكتب الوطنية الغنية بموجوداتها، والمتاحف بتراث التقدم والمجد والتمدن، قبل آلاف السنين. ثم بدأ بعد ذلك، في ظل الاحتلال الأميركي وتحت رعايته، مشروع الحرب الأهلية بالفتنة، عندما أُعطيت السلطة لسياسيين من الشيعة (وبعض السنّة) كانوا في معظمهم في المنافي (بريطانيا أساساً)، واستُعيدوا منها «أغراباً»، فأقبلوا على السلطة بفجع استثنائي، ودار النهب في ثروات بلاد الرافدين، وتعاظمت الطائفية، وهجم «أعيان الشيعة» وفيهم عملاء معروفون، على السلطة، فأعملوا فيها الفساد والنهب والتمييز في الحقوق والواجبات. فيما ذهب بعض «أعيان السنّة» إلى الخارج السعودي والخليجي، أو إلى التركي وهو الأخطر، وناصبوا العهد الجديد العداء تحت الشعار المذهبي، باسم المعارضة السياسية. هكذا اكتملت عناصر الفتنة، تحت الرعاية الأميركية، وتشظّت الدولة التي كان الأميركيون قد حلوا جيشها فتاهت عناصره في كل أرض وصار الكثير منهم قنابل موقوتة سرعان ما انتظم بعضهم في عصابات مسلحة تقاتل «النظام الطائفي»، وتطرّف بعضهم الآخر أكثر، فإذا هم في «داعش» تحت لواء «الخليفة أبو بكر البغدادي».
• أما سوريا فأمرها أقل تعقيداً وإن كانت النتائج لا تقل خطورة عما شهده العراق: بدأ الأمر بتظاهرة احتجاج محقة في درعا على ارتكابات خطيرة لمحافظها المعزز بقوى ممن لا تعرف غير تنفيذ الأوامر مهما كانت قاسية وغير مبررة ومثيرة للحساسيات الطائفية والمذهبية. وحين تفاقم الوضع أساء النظام تقدير مناخ نقمة الفقراء الذين أثارتهم قرارات الانفتاح الاقتصادي وإجراءاته وانعكاساته على من كانوا يعتبرون من متوسطي الحال، فانتبهوا إلى أنهم قد أفقروا بقرار عشوائي من النظام الذي كانوا عصبه. وكان طبيعياً أن تدخل الدول ـ عربية وأجنبية - لا سيما تلك التي أزعجها صمود النظام وعلاقته الخاصة بإيران واستطراداً بـ «حزب الله» في لبنان. أضف إلى ذلك اشتداد الأزمة المعيشية على العمال والفلاحين الذين كانوا يفترضون أن الحكم إلى جانبهم.
• وبالطبع فإن «الدول»، وأولاها تركيا التي أعطاها النظام أكثر مما تستحق، قد وجدت الفرصة سانحة لإرباك النظام وإضعافه وحتى العمل على إسقاطه. وكان طبيعياً أن يستشرس النظام في الدفاع عن وجوده، فتحولت المعارضة إلى تنظيمات مسلحة عديدة، بعضها يوالي تركيا، وبعضها الآخر يوالي بعض دول الخليج التي لم تتأخر في دعمها وفتح عواصمها لاستضافتها، بل في إنشاء غرف العمليات وتدريب الكوادر وتجهيزها بالسلاح حتى الصواريخ ووسائل الاتصال الحديثة. وتفاقمت الأمور خطورة، وانفصلت أو فُصلت أنحاء من سوريا الفسيحة، وبعضها بادية أو صحراء، عن الحكم المركزي. وجاء الإيرانيون يقاتلون مع النظام، ثم انضم إليهم « حزب الله» من لبنان، قبل أن يرى الرئيس الروسي بوتين أنه لا بد من أن يستجيب لطلب النظام السوري مساعدته، انطلاقاً من حساباته الخاصة التي ترى في تفاقم الأحداث وتعاظم قدرات «الفصائل الإسلامية» التي تقاتل في سوريا، وبينها «القاعدة» و «داعش» التي استقرّت في الرقة على مبعدة حوالي خمسمئة كيلومتر عن دمشق، مصدراً للخطر على روسيا. وهكذا نزل ببعض سلاحه، ثم بكثير من أسباب قوته العسكرية دفاعاً عن نظامه في روسيا.
• أما ليبيا التي انفجر غضب شعبها ضد نظامها الذي كان قائده العقيد معمر القذافي يعيش في عالمه الخاص، بعيداً عن هموم الناس - بمعزل عن إنجازاته في مجال العمران - فقد تمت المحاولة لعلاج الغضب بالقسوة، ما زاد من خطورة الوضع وأفسح في المجال لتدخل «الدول» في الانتفاضة الشعبية التي صمدت للقمع. ولم ينفع «الأخ العقيد» أن يترك طرابلس إلى المدينة التي اتخذها عاصمة، وهي مسقط رأسه، سرت، فاشتدت مطاردته، وضيّق عليه الحصار، واختلط تدخل القوة بغضب الناقمين، فتم القضاء عليه بطريقة بشعة جداً (ذُكر أن للاستخبارات الفرنسية ضلعاً مباشراً في تلك النهاية ونشر الصور الفظيعة لإعدامه بطريقة منفرة، حتى لخصومه). وها هي ليبيا بعد سنوات خمس ونيف ما تزال تعيش في دوامة من الدم والعنف لأن معارضاتها المختلفة لم تتفق حتى على الحد الأدنى، كما أنها لم تجد دولة. واستفاقت ذكريات تقسيمية نائمة تحاول إعادة ليبيا إلى ثلاث ولايات، كما كانت أيام الحكم الملكي (السنوسي). والخلاصة أن شعبها غارق في دمائه، و «حكوماتها» تتنازع المناطق، ويعجز «الوسطاء» عن إيصالها إلى بر الأمان. هذا كله من دون أن ننسى أن بعض دول الغاز والنفط العربية قد أسهمت في تسعير الصراع في هذه الدولة التي كانت غنية لكن شعبها بقي فقيراً.
• فأما اليمن فإن الحرب عليها وفيها قد صنعت في الخارج القريب إلى حد محاولة «اقتسامها» مع أهلها. ومن دون عودة إلى التاريخ فإن النظام السعودي يتحمل، بالدرجة الأولى، المسؤولية عما جرى فيها ولها. ومع أنها ليست الحرب الأولى التي تشنها المملكة المذهبة على جارتها الفقيرة، اليمن، إلا أن نتائجها لن تختلف عن نتائج سابقاتها.
... وتسألون عن سبب انقسام «العرب»، بأفضال أنظمتهم، وضياعهم عن مستقبلهم، وعن اللحاق بموكب التقدم، أو حتى عن البقاء حيث كانوا قبل عشر سنوات أو عشرين أو ثلاثين أو خمسين سنة؟
تسألين عن سقمي صحّتي هي العجبُ!