إنهم يتلاعبون بنا...

00a924
حجم الخط
يعكف عدد من الدول الأوروبية على وضع إطار عمل للوساطة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، عبر دعوة مجلس الأمن الدولي للقيام بهذه الوساطة، نحو ما تعتبره تلك الدول تثبيت قرار دولي لإطلاق عملية سلام جديدة في الشرق الأوسط.
الدول التي تقدمت بهذه الدعوة هي فرنسا وبريطانيا ونيوزيلندا، ولعل هذا التحرك الدولي يأتي بعد نتائج الانتخابات الإسرائيلية وفوز بنيامين نتنياهو فيها، ومساعيه الحالية لتشكيل حكومة تتوافق مع قناعاته وتمتلك القدرة على ترجمة سياساته دون أية مشكلات وعقبات.
أيضاً يأتي هذا التحرك بعد أن صرح نتنياهو أمام ناخبيه قبل بدء الانتخابات بيوم واحد، بأنه لن يسمح بقيام دولة فلسطينية، وأنه مع الاستيطان قلباً وقالباً، وقد يكون هذا التصريح هو الذي دفع تلك الدول الأوروبية للتحرك من أجل إعادة توليد مسار المفاوضات من جديد.
إذا كانت تلك الدول الأوروبية جادة تجاه ضرورة تحقيق السلام وقيام الدولة الفلسطينية، فلماذا إذن تذهب إلى مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة، مستنجدةً بها وهي تعلم أن السيد الأميركي لن يسمح بمرور قرارات لا تخدم إسرائيل تحديداً.
أضف إلى ذلك، أن الرئيس محمود عباس ذهب إلى مجلس الأمن منذ أشهر قليلة، حتى يحصل على قرار يعتبره خريطة طريق نحو قيام الدولة الفلسطينية، ومع ذلك فشل مشروع القرار ولم يحصل الفلسطينيون على شيء.
ثم إن تاريخ المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية أسود من ساسه إلى رأسه، بل هي مفاوضات شاقة وماراثونية ويتجاوز عمرها عمر الشاب المراهق منذ اتفاق أوسلو وما قبله أيضاً، ومع ذلك لم يتحصل الفلسطينيون لا على دولة ولا ما يحزنون.
من وراء المفاوضات الكاذبة والعقيمة "تخوزق" الفلسطينيون من جميع النواحي، فقد تراجع وضعهم الاقتصادي والمعيشي، وتدهورت حالتهم السياسية بعد أن كانوا موحدين، واليوم هم في أسوأ وضع، والحصار يضربهم من جميع الجهات، وجغرافيتهم تضيق بهم وتتقلص بفعل الاستيطان الهمجي والمسعور.
كل هذا جرى في وقت المفاوضات، وحين كانت تُجمّد؛ فلأن إسرائيل تريدها على مقاسها، حيث كانت تستثمر الفراغ السياسي أيضاً في تجسيد السياسات الإسرائيلية العنصرية، وفرض وقائع سريعة على الأرض تؤثر في أي مرحلة تفاوضية لاحقة.
هناك معطيات كثيرة تدلل على أن مجلس الأمن عاجز عن حل القضية الفلسطينية، حتى لو اقتنعت كل الدول الأوروبية بأهمية قيام دولة فلسطينية، فإن دولة واحدة هي الولايات المتحدة الأميركية يمكنها بكل سهولة عرقلة أي قرار دولي لا يتماشى مع المصلحة الإسرائيلية.
إن فكرة العودة مرةً أخرى إلى إطلاق مفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، هي نسخة حديثة لإنتاج قديم يستهدف إدارة الأزمة، والسبب أن إسرائيل لا تريد السلام ولا تؤمن بشريك فلسطيني يتمتع بصحة وعافية وسيادة وشرطة وحدود ومطار... إلخ.
كما أن إسرائيل ربما من أكثر دول العالم التي لم تلتزم بقرارات الشرعية الدولية، وكثيراً فعلت ذلك؛ لأن واشنطن تحمي ظهرها وتمدها بحليب "السباع"، الأمر الذي جعلها تستأسد على الجميع، وتستفرد بالقضية الفلسطينية.
إذا كانت دول مثل فرنسا وبريطانيا ونيوزيلندا معنية بالسلام وتؤمن به فعلاً وقولاً، فعليها أن تضع علامة "اكس" على التوجه إلى مجلس الأمن؛ لأنه خيار غير موفق ومحسوم لصالح القوى الكبرى التي تديره باعتباره أداة بالنسبة لها، وأن الخيار الأمثل لتلك الدول يتصل باتخاذ إجراءات دبلوماسية ضد إسرائيل تستهدف إعادة تقييم العلاقات الثنائية وربطها بالوضع الفلسطيني.
كنموذج على ذلك مثل، أن تعترف تلك الدول وبشكل رسمي بالدولة الفلسطينية، ومثل أن تعلن صراحةً عن رفض الاستيطان والقيام بإجراءات لفضح إسرائيل أمام المجتمع الدولي، أما أن تدعو إلى إحياء المفاوضات وجلوس الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على طاولة واحدة، فهذا يعني أنه فن لإدارة الأزمة واستهلاك للوقت لا أكثر.
مثل هذه الدعوة الأوروبية حتى لو كانت بريئة، تفهم على أنها تصب في مصلحة إسرائيل، إذ يمكن لنتنياهو الأخذ بها مثلاً، والاستفادة لجهة تعميق الاستيطان وتهويد القدس لعرقلة قيام الدولة الفلسطينية، ومن ثم الانسحاب من المفاوضات بعد استدعاء مليون ذريعة تعطيلية.
هذا حدث تماماً في المفاوضات الأخيرة التي توسطت بها واشنطن، والتي سمحت لإسرائيل بتكثيف الاستيطان، ومن ثم الخروج من هذه المفاوضات بعد امتناعها عن تنفيذ الصفقة الأخيرة المتعلقة بإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين القدامى.
هذه الدعوات أيضاً ليست بعيدة عن تحركات الرباعية الدولية التي تنشط على صعيد المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية، ثم تنام وتعيش في سبات عميق، لتصحو مرةً أخرى وتتذكر أن هناك مشكلات عميقة بين هذين الطرفين وأمرها يحتاج إلى مسكنات.
أي فعل أوروبي يمتلك مصداقية ينبغي أن يرتبط بأفعال وليس بأقوال، وعليه أن يبدأ من طرفه نحو إعادة فحص العلاقة مع الكيان الصهيوني، لأن مثل هذا الإجراء كفيل بالتأثير على إسرائيل وسمعتها، ويشكل مقدمة لإيجاد موقف متوازن يسهم في تحقيق رؤية حل الدولتين.
مع ذلك فإن الفلسطينيين لا يمتلكون خيارات كثيرة للحصول على حقوقهم، وتبقى الأمم المتحدة ميداناً للاشتباك السياسي بالنسبة لهم، أهون من احتكار المفاوضات بدون مرجعية تفاوضية، وهذا يقود إلى أهمية عدم القبول بمفاوضات بدون إطار زمني ومرجعية وضمانات واضحة.
المشكلة في الأمر أن الجميع يلعب علينا؛ أوروبا تلعب علينا حين تشتكي وتدعو لمفاوضات مرجعيتها الأمم المتحدة، وواشنطن أكبر من يلعب على الطرف الفلسطيني، وإسرائيل اللاعب الأساسي بطبيعة الحال، والأهم في الموضوع أن الطرف الفلسطيني أصبح لاعباً قوياً في المعادلة الفلسطينية.
القصد أنه بصرف النظر عن مدى صدقية أو عدم صدقية كل الطروحات الأوروبية، إلا أن الفلسطينيين يلعبون على بعضهم البعض؛ ذلك أن ديمومة الانقسام فيما بينهم تجعلهم متعثرين في القيام بواجباتهم الدبلوماسية والاقتصادية والمعيشية.
لو ذهبنا إلى الإفراط في التفاؤل، والقول إن المجتمع الدولي قرر قيام الدولة الفلسطينية، فهل نعتبر أنفسنا في موقع المسؤول والبالغ لمثل هذا القرار، وبالتالي لدينا إرادة ترحب بعودة الانقسام السياسي والمجتمعي والجغرافي، أم أن كل واحد سيقيم مملكته ودولته في هذا الوطن المتعثر؟
المؤشرات الحالية تدلل على أن الفلسطينيين يديرون أزمتهم الداخلية بنفس الطريقة التي يدير فيها المجتمع الدولي الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وفي نهاية الأمر فإن الخاسر الأول والأخير هو الشعب الفلسطيني وأرضه التي تضيع من تحت أقدامه.