يخطئ مَن يعتقد من المسؤولين السعوديين أياً كان مستواهم أن الوضع العربى العام يمكن أن يستقر دون أن تكون مصر مستقرة، فإذا كانت السعودية كما يصفها أهل الخليج هى عمود الخيمة الخليجية، فإن مصر هى عمود الخيمة العربية. لذلك فإن أى تصورات أو سيناريوهات أو حسابات مستقبل تستبعد مصر المستقرة هى حسابات خاطئة، بل يمكن وصفها بأنها «رهان خاسر»، ليس للسعودية وحدها، بل لمصر أيضاً وللعرب أجمعين.
وحتى يوضع كلامى فى إطاره الصحيح، فإن العلاقات مع السعودية هى أيضا شديدة الأهمية لمصر، الأكيد أن كلا البلدين يحققان مكاسب سياسية أو اقتصادية أو أمنية أو استراتيجية أو كل هذه العناصر معاً من خلال الحفاظ على علاقات قوية متوازنة، فإذا ما قرر بعض المسؤولين السعوديين التقليل من مفهوم وقيم العلاقات بين «الأشقاء»، فإن مفهوم الحسابات السياسية والمصالح المتبادلة يفرض عليهم وعلينا العمل فوراً على إنقاذ هذه العلاقات المهمة للجميع من أن تستمر فى حالة جفاء متزايد، يمكن أن يؤدى إلى ضرر حقيقى، دون أن نُلقى باللوم على أجهزة الإعلام بأنها هى التى روجت لمشروع لقاء بين الرئيس السيسى والملك سلمان، فى أثناء مشاركتهما فى احتفالات الإمارات بذكرى تأسيس الدولة، فإن فقدان هذه الفرصة خسارة، والمتسبب فى فقدانها يُلام على ذلك.
لقد كان من المعلوم، وفى حكم المؤكد، أن هناك جهودا إماراتية حثيثة يقوم بها الشيخ محمد بن زايد من أجل رأب صدع العلاقة بين البلدين، مصر والسعودية، وكان أيضا معلوما أن احتمالات هذا اللقاء كانت قائمة، خاصة مع متابعة المواعيد المقررة سلفاً للزيارتين، حيث إن زيارة الرئيس السيسى كانت تبدأ الخميس لمدة يومين، وتبدأ زيارة الملك سلمان الجمعة، فبدا الوضع وكأن اللقاء سيتم يوم الجمعة، وهو يوافق اليوم الوطنى للإمارات، ولكن يبدو أن «أمراً مهماً» أو ارتباطاً مهماً حدث يوم «الجمعة» فجأة، ليؤجل الملك سلمان زيارته لتكون بعد ظهر اليوم التالى (!!) وكمتابع للشأن السياسى، لا أظن أن هناك أمرا أو ارتباطا أهم من بذل جهد لتصفية أجواء ملبدة مع بلد حليف بالطبيعة، وتتبدد الفرصة التى كانت مهيأة، إلا لو كان هناك أمر آخر وحسابات أخرى.
ما يتردد فى أوساط سياسية وصحفية أن الرياض لها وجهة نظر، يتبناها الملك سلمان، وولى ولى العهد محمد بن سلمان، وهى أنهما تعرضا لـ«خدعة كبرى» من القاهرة، فبعدما قدما مساعدات عدة لم يحصلا على ما توقعاه من النظام فى مصر سواء سياسيًا فى تأييد التحركات السعودية عربيًا، خاصة فى الملفين السورى واليمنى، أو بتسليم جزيرتى تيران وصنافير للمملكة، بالرغم من توقيع الاتفاقية، وهنا يتجاهل بعض المسؤولين السعوديين حقيقة مهمة، وهى أن النظام فى مصر، أَى نظام، لا يمكنه أن يتحدى النظام القانونى الحاكم للدولة فى مصر، أو أن يتحدى المجلس التشريعى، أو أن يتجاهل التيار الشعبى الراغب فى أن يسمع ويقتنع قبل أن يوافق.
الأمر الآخر هنا- وهو أمر لن أناقشه طويلاً لأنه ليس من الصالح العام فتح نقاش طويل حول هذا الأمر- هو: هل كان هذا هو الوقت المناسب للإصرار والضغط من أجل تسلم الجزيرتين؟ ولن أناقش هنا حقوقا ولكن أناقش الجدوى السياسية.
لو لم يكن الرئيس السيسى هو الذى وافق على توقيع الاتفاقية مع السعودية لكان الموقف الشعبى أكثر تأزماً، ولكن الرئيس حملها على عاتقه، وتحمل تبعاتها ليؤكد للسعودية حسن نيته ورغبته الحقيقية فى تطوير العلاقات بين البلدين، وتحمل هو كل تبعات ذلك الموقف، ولكن يظل فى مصر، مهما كان ضعفها أو قوتها، نظام قانونى وتشريعى، مهما كانت الملاحظات عليه، حاضر ومؤثر وقوى، ولا يملك نظام حاكم أن يتجاوزه. لذلك، فإن الرئاسة المصرية أكدت دوما أنها ملتزمة بموقفها «غير القابل للنقاش» فى بقاء ملف الجزيرتين بانتظار كلمة الفصل القضائية.
وعلى الرغم من أن قائمة الاختلاف فى المواقف والرؤى بين البلدين فيها أمور أخرى، فإنه يبدو أن ملف الجزيرتين هو الأكثر إلحاحا لدى بعض كبار المسؤولين السعوديين، ولكن يظل ملفا سوريا وإيران من الملفات الخلافية الواضحة بين البلدين. يُذكر أن الخلاف السياسى بين مصر والسعودية حول الملفات الإقليمية ظهر للعلن مع إعلان الرياض استياءها من تصويت القاهرة فى مجلس الأمن لصالح مشروع قرار روسى تعترض عليه الرياض، وما تلى ذلك من وقف شركة أرامكو السعودية إمدادات البترول إلى مصر، وهو الموقف الذى أساء نفسياً كثيراً لدى المصريين، الذين مازالوا يتذكرون موقف الدول العربية الداعم لمصر فى حرب أكتوبر عندما فرضت الدول العربية المنتجة للنفط، بما فيها السعودية، حظرا على الدول الغربية المساندة لإسرائيل.
أما الموضوع الآخر الذى يزعج بعض المسؤولين فى السعودية فهو ما تعتبره السعودية غزلا مصريا إيرانيا خلال الأشهر الأخيرة. وهذا الموضوع فى حاجة إلى وقفة أطول للشرح وتوضيح الموقف المصرى من إيران تاريخيا وحالياً. لكن الأكيد أن التزام مصر بدعم دول الخليج والوقوف أمام أى تهديد محتمل لها هو موقف مصرى حاكم، أعلنته مصر مراراً على لسان كل مسؤوليها، حتى مستوى الرئيس نفسه، الذى أكد أكثر من مرة أن أمن الخليج هو خط أحمر بالنسبة لمصر.
الموضوع أكبر كثيراً من أن يتم تناوله فى هذه المساحة المحدودة، ولكن الرسالة الأساسية هنا هى أن مصلحة السعودية ومصلحة مصر ومصلحة المنطقة أن تنجح الدولتان الكبيرتان فى تجاوز الخلافات التى هى صغيرة إذا ما قورنت بحجم التهديد الذى تواجهه المنطقة، وأن نبدأ فى التعامل مع اختلاف المواقف السياسية تجاه قضايا بعينها فى إطار تقسيم الأدوار أو الفهم الصحيح لظروف كل دولة.