تركت تحفة جورج أورويل (Homage to Catalonia) أثراً في الذاكرة لم تمحه الأيام، منذ العثور عليها قبل عقود أصبحت طويلة الآن. ولأسباب مختلفة كان التماهي مع الجمهورية، والجمهوريين، وفيلق المتطوعين الأجانب في الحرب الأهلية الإسبانية، حياً وقوياً في الذاكرة. ربما لأنهم كانوا الرفاق في الحرب الكونية ضد الفاشية، والإمبريالية، وربما لأنهم خسروا الحرب. فلا شيء كقضية خاسرة يُحرّض على ذلك النوع الغريب والمُعدي من النوستالجيا، التي تُسمع في جنباتها أصداء نشيج طويل، يعبر القرون، واللغة، والقوميات: نشيجنا نحن، والسابقين، ومَنْ ترصدهم، في باطن الأيام، حرب قادمة.
وفي حالات بعينها، كما حدث في بيروت صيف العام 1982، لم يكن التماهي مجرّد رياضة ذهنية، بل حقيقة يومية تقطر بالشجى، وتمحي فيها، وبها، حدود الزمان والمكان، بين ما كان هناك، وما هو كائن هنا، وما سوف يكون. وما من عبارة عابرة للأزمنة والأمكنة أكثر دلالة مِنْ "يا وحدنا"، فلو التقى الملازم خالد، الذي فجر نفسه، في يوم الجمعة الأسود، في أوّل دبابة حاولت التقدّم من جهة المتحف، في بيروت، بذلك المتطوّع الإيطالي، في ثكنة لينين في برشلونة (الذي ألهب خيال أورويل) لفهم أحدهما الآخر من نظرات عينيه، ولم يكن ليسأل عن معنى "يا وحدنا" في العربية أو الإيطالية، أو حتى ما إذا كان الأوّل حقيقياً والثاني أنجبه الخيال.
أكتب "لينين" ويخفق قلبي. لا أعرفُ ما إذا كان من حقي تعريف نفسي كماركسي، فقد مرّت مياه كثيرة تحت الجسر. وأعرفُ أن لينين لم ينشئ نظاماً عادلاً، ولكنه كان مصدر إلهام لما لا يحصى من الحالمين بنظام عادل، في أربعة أركان الأرض. وهؤلاء عرفوا وعرّفوا أنفسهم بتعبيرات تتجاوز القومية، والدين، والجغرافيا، والثقافة، والمهنة، واللغة. فهم رفاق ورفيقات، لا في حرب دين على آخر، ولا لون على آخر، ولا قومية على أخرى، بل في حرب الفقر على الغنى، وحرب المظلوم على الظالم، وحرب طبقة مُستغَلّة على طبقة مُستغِلّة.
لماذا، وكيف، غيّبنا الفرق وجمعنا بين شخصية واقعية من لحم ودم في يوم جمعة أسود، وشخصية خيالية على صفحات رواية عن حرب أهلية في مكان بعيد؟ لأن التاريخ صراع بين روايات مختلفة على المعنى، وعلى هذه الحادثة أو تلك. وإذا ضاع منه المجازي، أضاع الإنساني فيه، وأصبح بارداً، عقيماً ومُعقّماً، بلا روح كأروقة المستشفيات. لا أحد يذهب بمحض إرادته إلى الحرب، مسكوناً بذلك النشيج التاريخي الطويل، بلا يوتوبيا من نوع ما، وبلا مخيّلة اختلط فيها الواقعي بالمجازي ليصبح مفتوحاً عليه، ومشروطاً به.
وهل في حلب، التي حولتها الحرب الأهلية إلى أرض محروقة، ما يمكّن المولع بالتماهي مع الجمهوريين الإسبان، ومجازهم التاريخي، من التماهي مع المدافعين عنها؟ تتقاطع في حلب سيوف السعوديين، والقطريين، والأتراك، والروس، والأميركيين، والإيرانيين، ناهيك عن نظام آل الأسد، وشبكاته الطائفية والأمنية وروافعه الاجتماعية. ولكل من هؤلاء رواية يريد فرضها على روايات مضادة لتفسير ما كان، وما هو كائن، وما سوف يكون. ويصعب في الواقع تصديق أحد من هؤلاء.
وإذا كان المقصود بالمُحاصَرين في حلب، والمدافعين عنها، خلافة الدواعش وجبهة النصرة، وأشباههم (لا تكف تنظيمات هؤلاء عن التشظي وتتكاثر كالفطر) فالجواب بملء الفم: لا. فهؤلاء بيادق في حرب عرب وعجم أغنياء على فقراء، وظالمين على مظلومين، ومُستغلِين على مُستغَلين، ورجال على نساء، وبداوة على حضارة. وهم جنود لا في حرب دين على أديان وحسب، بل وفي حرب طائفة على ما ليس فيها ومنها، أي على كل ما تبقى في الكرة الأرضية من غير الوهابيين.
ومع هذا وذاك، وقبله وبعده، الإمارة لا الجمهورية، والرعية لا المواطنة، والفتوى لا الدستور، والفقيه لا السياسي، والبيعة لا الانتخابات، هي غاية هؤلاء. وهؤلاء هم الذين أفسدوا ثورة السوريين على نظام آل الأسد، وبددوا الكثير من رصيدها الأخلاقي والسياسي، ودلالتها الرمزية، وقيمتها التاريخية.
ولنلاحظ، هنا، أن القائل بحروب الوطنيين دفاعاً عن الديمقراطية، وحقوق الإنسان (في الخبز والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية)، يبدو الآن، في كارثة حلب، كمن هبط من كوكب آخر، في زمن آخر. ففي مجرد ما يكتنف حلب الاسم والصورة والواقع المأساوي على الأرض هذه الأيام من مشاعر متضاربة، واستحالة التماهي مع المُحاصَرين الدواعش والنصرة وأشابهم، والمُحاصِرين من ميليشيات أسدية وطائفية، ما يدل على اختلاط الأوراق، وتبدّل الأزمنة.
وماذا عن الآخرين: ماذا عن الجيش الحر، والناس العاديين؟ الجواب بملء الفم: نعم، يمكن التماهي مع ما تبقى من هؤلاء وأولئك فوق وتحت الأنقاض. ويمكن العثور بينهم على شخص يشبه الملازم خالد في بيروت، وعلى الشاب الإيطالي في ثكنة لينين في برشلونة، وفي ظل صمتهم المهيب، والأكثر صخباً من دوي البراميل المتفجّرة، نسمع "يا وحدنا"، وأصداء ذلك النشيج التاريخي الطويل.
فلا شيء يفنى أو يُخلق من عدم. حلبٌ، حلبْ. هذا ما كان، وما سوف يكون. من حرب سبقت تُولد حرب جديدة. جيوش الجمهورية لم تكف عن الحبل والولادة، وجيوش الفاشية، والجنرال فرانكو أيضاً. حلبٌ. حلبْ.