جريمة لا تغتفر

حمادة فراعنة
حجم الخط

هل هناك جريمة أكثر بشاعة من تلك التي نفذها إرهابيو داعش يوم الأحد الماضي ، يوم المولد النبوي الشريف، ضد المصلين الأقباط في الكنيسة البطرسية ( نسبة إلى بطرس غالي الجد الذي سبق وتبرعت عائلته بكلفة بنائها ) التابعة للكاتدرائية المرقسية، حيث مقر قداسة البابا تواضروس ، في حي العباسية شرق القاهرة ، فالضحايا الذين إستشهدوا وأرتقوا هم من النساء والأطفال ، لأن الأنتحاري الذي فجر نفسه إستهدف الجناح المخصص للنساء في تأدية صلواتهم الكنسية تقرباً من الله ، وغالبيتهم من شرائح الغلابى الذين يؤدون واجباتهم الدينية خاشعين لما يؤمنون بما أنزل لهم وعليهم رسولهم السيد المسيح عليه السلام ، لا صلة لهم بالسياسة ، لا هم مع نظام السيسي ، ولا هم ضده ، هم من المصريين الذين يتوسلون الرعاية والرضى لعلهم يخرجون مما هم فيه من فقر وعازة ، ويتطلعون للمساواة على أرض وطنهم وفي بلدهم الذي لا بلد لهم غيره ، ولا وطن لهم سوى مصر العزيزة .
نخجل من أنفسنا ، لما قام به الأنتحاري المتطرف ، لأنه مسلم عربي ، وإستهدف بشرا من المسيحيين العرب ، وناله من التحريض ما يكفي كي يكره الأخر عقائدياً وسياسياً ، وحوافز وهمية تضليلية كي تدفعه لتفجير نفسه وسط المصلين داخل الكنيسة ، ووسط نساء وأطفال ، ووسط أناس بسطاء يتعبدون الله لا ذنب لهم مما هم فيه من وضع سياسي أو أمني أو خلاف عقائدي ، فهم لا يستحقون الثأر من أي تبعات ينظر لها الساسة سواء كانوا من الإخوان المسلمين كما تفيد تحقيقات أجهزة الأمن ، أو من داعش كما أعلنت في بيانها ، وهو الأرجح لأن أداء العملية تشير إلى فعل داعش وأشكال " جهادها " ضد الأخر .
نجحل من أنفسنا لأنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها إستهداف الكنائس في مصر ، فهي موجة تحريضية متلاحقة ، وأداء إنحطاطي يفوق النازية والفاشية في أوروبا ، ويتفوق على الأداء الصهيوني الإسرائيلي من عتاة المستوطنين الأجانب ضد المساجد والكنائس في عموم فلسطين ، ولكنه مع الأسف يوازي العداء السافر غير المبرر الذي يستهدف مساجد الشيعة والسنة في العراق من قبل الطرفين ضد بعضهما البعض .
نخجل من أنفسنا حينما تتعرض كنائس شعبنا من المسيحيين للمس والأذى في بلادنا ، وما يعزينا ، ويعزي المسيحيين الأقباط أن مساجد المسلمين مستهدفة كما هي الكنائس ، ورجال الأمن والجيش المصري مستهدفون كسائر شرائح الشعب المصري ، فالموجة عدائية متعصبة متخلفة ضيقة الأفق والتفكير ، ولن ينالها الهزيمة سوى بتماسك ووحدة الشعب المصري في مواجهة الأرهاب ، والأرهاب وحده العدو الأول للمصريين وسائر العرب وللبشرية جمعاء .
نخجل من أنفسنا لما شاهدناه وسمعناه ، فقد أثار فعل تفجير الكنيسة ردة فعل لدى حفنة من شباب أقباط ، وتداعوا للتجمع كي يتوجهوا نحو مساجد المنطقة المحيطة للثأر وحرقها ، رداً على تفجير الكنيسة ، وجاء صوت من سماعات الكنيسة ، سمعتها مع رفيقي الدكتور محمد البيشاري المغربي الأصل الفرنسي الجنسية والإقامة ، الأمين العام للمؤتمر الإسلامي في أوروبا ، عندما خرجنا من الفندق وذهبنا سويا للإطلاع عما حصل ، والتعبير عن سخطنا لما صاب الكنيسة والأهالي من أذى ، سمعنا معاً صوت وكيل عام البطريركية القس سرجيوس سرجيوس ينادي جموع الشباب الأقباط بصوت جهوري قوي " يا شباب من يمس مسجداً كأنه يمس الكنيسة ، ومن يعتدي على مسلم فهو يعتدي على مسيحي ، ومن فعل ذلك هو ضد المسلمين والمسيحيين على السواء " وهكذا تراجع الشباب الأقباط ، وترفعوا وكبروا على جراحهم .
نحزن ، ونخجل من أنفسنا حينما نتذكر أذان الكنائس في فلسطين رداً على إجراءات سلطات الإحتلال وقراراتهم ومحاولات تشريع برلمانهم لمنع أذان المساجد بحجة التشويش والصوت العالي والأزعاج المتعمد ، نحزن ونخجل من أنفسنا حينما نتذكر دور الكنيسة ورجال الدين المسيحيين في نضالهم المتواصل ضد المشروع الإستعماري التوسعي الإسرائيلي ، وأذكر هنا رسالة سفيرنا الأردني في البرازيل مالك الطوال حينما كتبت عن " الكنائس مع أجراس المساجد " كتب لي رداً يقول حرفياً " عند ذكرك أسماء عدد من رجال الدين المسيحي الذين عملوا على تعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية ومنهم عمي البطريرك فؤاد الطوال ، فاتك ذكر إسم الأب الفرنسيسكاني ( مصري الجنسية ) إبراهيم فلتس الذي فتح أبواب كنيسة المهد للمناضلين الفلسطينيين مما أدى إلى محاصرتها لعدة أسابيع من قبل قوات الإحتلال ، ولم يقبل تسليم أي من لجأوا للكنيسة ، لا بل وظف علاقاته مع وسائل الإعلام العالمية لتجييش الرأي العالمي وخاصة المسيحي ، وفي إيطاليا عبر الفاتيكان ، ضد عنف وبطش جيش الإحتلال ، وتحفيز المنظمات الأوروبية على تقديم كل أنواع المساعدة للمحاصرين " وهو تعبير وشكل من أشكال النضال دعماً للمشروع الوطني الديمقراطي الفلسطيني في مواجهة المشروع الإستعماري التوسعي الإسرائيلي .
نخجل من أنفسنا ونحزن ولكن حينما نقرأ بياناً ، أو نسمع صوتاً إحتجاجياً ، نرى أننا رغم الفاجعة في مصر ومعها وقبلها في ليبيا وسورية والعراق واليمن ، نرى أنفسنا أو بعض منا ، على الطريق السوي ، فالبيان الصادر عن القوى السياسية الفلسطينية المناضلة ، والموشحة بعبارة " لا صوت يعلو فوق صوت الإنتفاضة " يجتاحنا الأمل أن الغد هو الأفضل ويعزينا بيانهم بقولهم حرفياً :
" نُدين ونستنكر الجريمة النكراء لتفجير الكاتدرائية المرقصية القبطية في القاهرة ، مؤكدين وقوفنا إلى جانب مصر رئيساً وحكومة وشعباً ونتقدم بتعازينا إلى عائلات الضحايا ، حيث أن محاولات النيل من دور مصر العظيم ستبوء بالفشل وستبقى مصر هي القائدة لقضايا الأمة ، وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية كقضية مركزية " وخير الكلام ما يأتي من المناضلين ، ومن فلسطين .