هل الحياة على الأرض بشكلها الحالي هي الشكل الوحيد المتاح والممكن؟ بمعنى أنه لو تمكّنا بطريقة ما من إعادة عقارب الساعة مليارات السنين، إلى نقطة البداية، ووضعنا الأرض الأولى أمام مهمة نشر الحياة في أرجائها، وشاهدنا كيف ستعيد إنتاج الحياة لتملأ المكان مرة ثانية، فهل سنرى نفس المشهد الأرضي بجباله ومحيطاته وصحاريه؟ وهل سنشهد نفس الكائنات وأنماط الحياة التي نراها اليوم؟! وهل سيكرر التاريخ نفسه؟!
في تجربة علمية هي الأكثر كلفة في تاريخ العلم، في منطقة "سيرن" قرب الحدود الفرنسية السويسرية، يسعى العلماء لإحداث تصادم بين حزمتيْ جسيمات من البروتونات تسيران في اتجاهين متقابلين في مسار بيضاوي على سرعات تكاد تقترب من سرعة الضوء، داخل نفق طوله 27 كيلومتراً، يحتوي على مصادم هدرونات ضخم، ومغناطيسات عملاقة وأجهزة إلكترونية معقدة، لمحاكاة الظروف التي أعقبت الانفجار العظيم.
ويأمل العلماء من خلال هذا التصادم أن يتمكنوا من رصد وتحليل ما حدث خلال فترة متناهية الصغر من الزمن أعقبت حدوث الانفجار العظيم، الذي وقع قبل 13.7 مليار عام، ليفهموا كيف تشكل الكون، وكيف انطلقت الحياة، وبالتالي معرفة نظامها وقوانينها.
وطالما أن العلماء متفقون على قصة الانفجار العظيم، لنعيد طرح السؤال السابق، ولكن هذه المرة على مستوى الكون، ما يعني الرجوع بالزمن ثلاثة أضعاف عمر الأرض، لنقف عند حافة الزمن السحيق، ونبدأ برصد الانفجار الأول وتتبع مساراته الشعاعية.
وقد تعلمنا من الهندسة أنه عند رسم خط مستقيم، فإن أي انحراف بسيط في مساره، سيؤدي إلى انحراف كبير بعد مسافة معينة، ويتوقف مدى هذا الانحراف على مقدار بُعدنا عن نقطة البداية، ومن هنا فإن كل جزء من الثواني الأولى في تلك اللحظات المصيرية من تاريخ الكون، والتي تَشكَّل خلالها الانفجار العظيم سيكون تأثيرها حاسما بعد ذلك، ربما على مستوى المجرات.
والسؤال الافتراضي المطروح: فيما لو أعيد الانفجار العظيم مرة ثانية، فهل سينشأ عنه نفس هذا الكون الذي نعرفه حاليا؟! وماذا لو أكد علماء "سيرن" أنه كان هناك ما لا حصر له من أشكال الانفجارات المحتملة؟!
لنعد إلى الأرض مرة ثانية، ونضرب المثال التالي: لو أن شخصاً ما كسر جرَّة تعبيرا عن فرحِهِ بالتخلص من مديره مثلاً، ألقاها من علو شاهق، فتكسرت إلى مئات الشظايا والنتف.
فلو تخلص نفس الشخص من مدير آخر وأراد أن يلقي نفس الجرّة وبنفس الكيفية، فهل سنحصل على نفس شكل الشظايا والنتف؟! الجواب لا، حتى لو كرر العملية ملايين المرات.
يقول "هويمارفون ديتفورت": "إن احتمال أن تتكرر الحياة بالشكل الذي اتخذته كنتيجة لتكاثر وتطور سلالة الخلية البدائية، بأن تتكرر مرة ثانية على الأرض، أو أن تنشأ بنفس الكيفية وتنتهي إلى نفس المصير في كوكب آخر من هذا الكون الفسيح، هو احتمال يقترب من الصفر".
ويضيف: "إن الطبيعة خلال مليارات السنين من العمل على الأرض لم تتمكن سوى مرة واحدة من تهيئة المقدمات الضرورية لنشوء الحياة، من خلال بذرة وحيدة فريدة منعزلة". ولكن هذا لا ينفي إمكانية نشوء أشكال أخرى للحياة، ستكون نتيجة لتطور خلية أخرى مختلفة بمواصفات وخصائص مختلفة، بمعنى أن الطبيعة لم تكن مضطرة ومجبرة على قبول خلية معينة دون غيرها، وبالتالي فإن الادعاء بأن الحياة على الأرض لم تكن لتتحقق إلا بالشكل "الوحيد" الذي نعرفه، أو أنها لا تتحقق أبداً، هو ادعاء غير صحيح، فقد شهدت الطبيعة ما لا حصر له من أشكال الحياة التي لم تنجح وانقرضت مرارا وتكرارا خلال مسيرة التاريخ التطوري للحياة.
وما يدعم استنتاج "ديتفورت" بأن "الجد المشترك لجميع الكائنات الحية، هو الوحيد الذي اجتاز بسلام المنافسة الشديدة بين الاحتمالات الأخرى خلال سنوات التطور"؛ ففي التاريخ المبكر للأرض كان هناك عدد كبير من البدايات المختلفة لتشكل الحياة، أي المشاريع الحياتية المتنوعة، ولكن بقي منها مشروع وحيد انتصر في النهاية، لأنه كان الأفضل والأنجع، وهو الوحيد الذي نجا من بين بقية المشاريع وواصل تطوره حتى غدا بالشكل الذي نعرفه اليوم.
يزعم العلماء أن كويكبا يدعى "ثيا" كان قد ضرب الأرض في بدايات حياتها، وقد كانت هذه الصدمة عنيفة جدا، إلى درجة أن الأرض فقدت جزءًا كبيرا من كتلتها، تناثرت في الفضاء مكوّنة القمر؛ وكان القمر حينها على مسافة قريبة جداً من الأرض؛ حتى أنه كان يحجب عنها الأفق، وبسبب جاذبيته عند هذا المستوى من القرب كانت أمواج المد عاتية؛ ارتفاعها يصل إلى مائة متر، وسرعتها شديدة جدا، وكانت تصل إلى أعماق اليابسة؛ وفي طريق عودتها للمحيط أثناء الجزر كانت تأخذ معها العناصر المعدنية والأملاح وغيرها من المواد العضوية من اليابسة وتذيبها في المياه، هذا الأمر حفز سلسلة من الأحداث اللاحقة أدت إلى تكوين ما يُعرف بالحساء الكوني، الذي منه انبثقت أشكال الحياة البدائية.
ثم أكمل القمر معروفه تجاه الأرض؛ إذْ أخذت أمواج المد تتسبب في تباطؤ سرعة دوران الأرض حول محورها، واستمر هذا الأمر ملايين السنين، حتى هدأت سرعة الأرض، ونتج عن ذلك طول مدة الليل والنهار؛ ما سمح بثبات نسبي لدرجات الحرارة، هذا الثبات هيأ الظروف لنشوء كائنات حية في المياه.
ويتفق العلماء على أن بدء الحياة على الأرض، كان نتاج تجمع أحماض أمينية معينة شكلت أول بروتين في ذلك الحساء الكوني؛ ولكن احتمال أن تصطف الأحماض الأمينية بالصدفة لتشكل أنزيما معينا هو احتمال مستحيل، وهذا يعني أن نشوء الحياة مسألة إما أن تكون غير محتملة على الإطلاق، وإما أنها تُشكِّل حالة نموذجية فريدة من نوعها، وُجدت في الكون لمرة واحدة فقط، ومن المستحيل أن تتكرر في مكان آخر.
ما يدعم إيماننا بأن هناك خالقا عظيما، هو الذي سمح لهذه الحالة الفريدة من نوعها أن تتشكل.
ومع ذلك، تظل مسألة وجود حياة على كوكب آخر لغزا غامضا، من المتعذر حله حاليا، وهو ما سنناقشه في مقالة قادمة.