مهمة هي المبادرة التي طرحها وزير الخارجية الأميركية جون كيري، وتتضمن رؤيته لإعادة إحياء المفاوضات وعملية السلام على أساس رؤية الدولتين، غير أنه وفق معايير الحقوق الفلسطينية وقرارات الأمم المتحدة فإن الأهم هو الشهادة التي قدمها في حديثه حول إسرائيل وسياساتها ومسؤوليتها عن تعطيل العملية السياسية برمتها.
العناصر التي قدمها كيري كإطار لتفعيل عملية السلام، تخالف قرارات الأمم المتحدة بخصوص الحقوق الفلسطينية الثابتة وتنتهك هذه الحقوق التي لا يتبقى منها استناداً لرؤية كيري سوى دولة فلسطينية بدون أظافر أو أسنان، مع بقاء الكتل الاستيطانية ضمن حدود الدولة الفلسطينية.
القدس من وجهة نظره عاصمة لدولتين وبالتالي موضوعياً وبحسب موازين القوى ستكون عاصمة لإسرائيل عملياً، أما موضوع حق العودة فهو عملياً مشطوب من الحقوق، ومقابل هذه الانتهاكات يترتب على الفلسطينيين الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل.
هي معقولة بالقياس لجوهر السياسات والمواقف الأميركية المعروفة بانحيازها التاريخي والكلي لإسرائيل، ولأنها تصطدم بسياسة إسرائيلية متطرفة لا مكان فيها لدولة فلسطينية وأية حقوق تتجاوز سلطة حكم ذاتي محدود الصلاحيات.
وربما لهذا السبب ولأن الفلسطينيين يعرفون أنها ستكون مرفوضة من ألفها إلى يائها من قبل إسرائيل، فإنهم رسمياً يرحبون بها طالما أنها تنطوي على بعد اعتراضي على ما تقوم به إسرائيل، وبعد تعبوي للمجتمع الدولي.
قد تتحول هذه الرؤية الإطارية إلى قرارات من قبل مؤتمر باريس الذي يفترض أن ينعقد أواسط هذا الشهر وقد تتحول إلى مجلس الأمن الدولي ليتخذ فيها قراراً لا تعترض عليه الولايات المتحدة مثلما يتوقع بنيامين نتنياهو، لكن الأهم هي الخطوات التي يترتب على الطرف الفلسطيني اتخاذها لتحقيق وانتزاع المزيد من الإنجازات على المستوى الدولي.
نتمنى أن يكون الترحيب العربي السريع والصريح بأفكار كيري منطلقا من قراءة استثمارية لرفض إسرائيل الإجماع الدولي، ذلك أن هذه الأفكار لا تلبي الحد الأدنى من مبادرة السلام العربية التي أقرتها قمة بيروت في العام 2002.
إسرائيل كما أعلن نتنياهو تجرد حملة سياسية وتحريضية واسعة على مؤتمر باريس الذي يعتبره رئيس حكومة إسرائيل مؤتمراً وهمياً لا قيمة له. هذا يعني أن إسرائيل إلى أن ينعقد المؤتمر وخلال أيام انعقاده ستدخل في إشكاليات وتوترات مع معظم الدول التي ستحضر المؤتمر.
في المحصلة، فإن إسرائيل تتجه بسياساتها الخرقاء نحو عزل نفسها أكثر فأكثر على المستوى الدولي، بحيث لا يكون بمقدور الرئيس الأميركي المقبل ترامب إنقاذها من هذه العزلة. وبكلام واضح فإن نتنياهو يراهن على ترامب الذي صدر عن أحد مستشاريه ما يفيد بأنه سيقوم بإصدار مراسيم تلغي الكثير من القرارات التي اتخذتها إدارة الرئيس أوباما خلال سنواتها الثماني.
تستطيع إسرائيل الاعتماد على ترامب وإدارته ومستشاريه لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء بالنسبة لسياسات الولايات المتحدة، بل ويمكنها أن تراهن على تعميق الانحياز الأميركي لإسرائيل، واتخاذ المزيد من القرارات ضد الحقوق الفلسطينية، لكن هذا لن يبدل المزاج الدولي الذي تشكل خلال العقود السابقة.
إذا كان هذا هو رهان إسرائيل وهو رهان تدميري لأنه يؤدي إلى عزلها دولياً، والتسريع بتعميق عنصريتها ولا ديمقراطيتها، فإن الفلسطينيين موضوعياً يراهنون على أن سياسة ترامب الأكثر انحيازاً لإسرائيل من شأنها أن تخلي الساحة الدولية لتعظيم التحولات الجارية لصالح القضية الفلسطينية.
بعض الإسرائيليين أشاروا عن حق الى أن ما طرحه كيري يجعله صهيونياً بامتياز، وأنه من موقع الحرص على إسرائيل يسعى لحمايتها من نفسها، لكن الأغلبية الحاكمة والمتحكمة بالسياسة الإسرائيلية تتهمه زوراً بالانحياز للفلسطينيين ومعادة إسرائيل التي تصر على رفضها لرؤية الدولتين وتعمل على برنامج دولة غزة.
المشكلة هنا فلسطينية بالدرجة الأولى، ذلك أن السياسات الفلسطينية المتناقضة والمنقسمة على نفسها، ما تزال تراوح عند حدود الشعارات فيما يتعلق بوحدة الجغرافيا والنظام السياسي الفلسطيني. الدكتور موسى أبو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس تحدث مؤخراً عن الفيدرالية، الأمر الذي ينطوي على خطورة بالنظر لأن إسرائيل هي صاحبة اليد الطولى والأطوال في صياغة الوضع الفلسطيني.
لا يكفي التأكيد على أن هذه الفكرة لم تطرح أو تناقش من قبل الهيئات القيادية لـ»حماس»، كما لا يكفي مواصلة التأكيد على أنه لا دولة في غزة ولا دولة فلسطينية بدون غزة، فالسلوك الفلسطيني عموماً يسهّل على إسرائيل مواصلة العمل لإنجاح برنامج وهدف دولة غزة.
إن من يضع ما هو معلن من إجراءات فلسطينية خلال الأشهر القليلة المقبلة، إن من يضع هذه الإجراءات في مختبر التحليل الموضوعي يستنتج أن اتجاهات الفعل الفلسطيني الداخلي تتجه نحو تعميق الانقسام وإبعاد الأمل في إمكانية التخلص منه واستعادة الوحدة.
السياسة الإسرائيلية تشكل خطراً على الحقوق الفلسطينية على المدى المنظور، إنما هذا هو جوهر الصراع الذي لا يمكن تغييره إلا بمواصلة النضال، لكن خطر الانقسام وتفاقم حالة الصراع الداخلي تشكل الخطر الأكبر طالما أنها وعلى المدى المنظور أيضاً تشكل عائقاً أمام النضال ضد الاحتلال.
وبصراحة يحتاج الفلسطينيون إلى ثورة على الذات نحو إعادة ترتيب الوضع الفلسطيني برمته وفق استراتيجية وطنية جديدة ومختلفة لمواجهة التحديات التي تطرحها وتنجح في فرضها السياسات الإسرائيلية. إن التاريخ لن يعفي كل طرف فلسطيني والأرجح كل الأطراف الفاعلة من المسؤولية عن انحطاط الوضع الفلسطيني وعن تجاهل هذه الأطراف عن تلبية استحقاقات مرحلة تتسم بالتصدي والصمود وتحتاج إلى الوحدة أكثر مما تحتاج إلى أي شيء آخر.