"كنا عائلة واحدة بكل أفرادها يعملون معا للحفاظ على منزلهم (مدارس الفرندز) مرتبا ونظيفا لنتمكن نحن، وأطفالنا، والأجيال القادمة من الاستمتاع والافتخار به."
بعد أن احترنا من أين نبدأ، فقد اهتديت لاقتباس السيدة جويس عجلوني المديرة العامة لمدارس الفرندز من حديث للأستاذ خليل محشي، والذي كتبه في مقدمته للكتاب السنوي لمدارس الفرند عام 1993.
وهي السنة التي فيها عرفت الأستاذ.
ولعلي أقتبس اقتباسا آخر لإحدى ابنتيه، لور أو ليان، أوردته الدكتورة حنان عشراوي في نعيها للمفكر التربوي خليل محشي، تتجلى بالمعاني التربوية العظيمه، التي كان الأب يزرعها في ابنته:
"الشجاعه، القياده، والتركيز على ثلاثة أسس لأسلوب للحياه: الأخلاق والحقيقه والجديه في التفكير..".
ولعلي وآخرون قد اختبرنا عمليا تلك المعانبي والأسس، كل بما صاحب أو تتلمذ على يديه.
لكل من عرفه قصته معه، ما لمس عن قرب وما تعلّم منه، بأبدع ما يكون الأسلوب: الإيحاء بكل ما أوتي الإنسان من لطف، بحيث تتعمق المعرفة والسلوك معا ويبقيان، بحيث أننا رأينا أنه هو الأبرز لربطه مع المفكر والتربويّ الفلسطيني خليل السكاكيني.
وكلاهما مفكرا عالميان، لو أتيحت لهما الفرصة لكتابة الأدبيات التربوية التي قاما بتطبيقها، لعرفهما العالم تماما كما عرف باولو فريري.
نتحدث اليوم عن الأستاذ خليل محشي من أجل أن نفيه حقه علينا كتلاميذ وتلميذات في المدارس والجامعات والعمل من جهة، ولعل الجهة الأخرى هي الأهم، خصوصا أن خليل المعلم إنما عاش حياته من أجل تحقيق القيم التربوية تلك القيم المؤصلة للقيم الوطنية والإنسانية والديمقراطية.
لقد لخص خليل محشي ما يمكن أن نطيل فيه؛ فالنظرة للمدرسة كبيت، تعني أن يكون العمل العام قادما من اهتمام شخصي، وهو اهتمام رمزي لوجودية عميقة تتعلق بالمستقبل الإنسان للمجتمع والعالم، لأنه إنما من المدرسة والبيت ينطلق الفكر والسلوك. لذلك لا مفر من التعاون لبقاء المدرسة-البيت والعالم مرتبا ونظيفا لنتمكن من العيش نحن وأطفالنا والأجيال القادمة من الاستمتاع به، بل والافتخار به. ولعل الحديث عن الترتيب والنظافة تتجاوز المعنى القريب، إلى ما هو عميق جدا، من حيث بناء المنظومة الفكرية، وسلامة القلب ونظافته من المشاعر السلبية.
ولخصت ابنته ارتباط الشجاعة بالقيادة، فلا يمكن أن يكون القائد إلا شجاعا، ولن تكون لقيادته مشروعية حقيقية بدون الأخلاق والحقيقة والجدية فعلا في التفكير. تلك القيادة التربوية والسياسية في الحكم والإدارة التي ستحقق الأهداف المرجوة.
ولعل خليل محشي كان كل ذلك وأكثر خصوصا بإنسانيته.
لم يكن تقليديا في التفكير ولا في الأحكام والسلوك، كان استثناء في قيادته لنا في الإدارة العامة للعلاقات الدولية في وزارة التربية والتعليم.
وسأختار بعضا من إبداعات خليل محشي، طامحا أن نتشارك قراءتها وربطها معا تربويا ووطنيا وإنسانيا:
حدثنا عن إدارته للفرندز خلال الانتفاضة الأولى، فهو كمدير عاق بين أمور تبدو متناقضة ومتشابكة، فهو يريد كتربوي الحفاظ على عملية التعليم، وفي الوقت نفسه كإنسان وطني مناضل لا يريد حرمان الطلبة من التعبير عن رفضهم للاحتلال، كذلك يريد كأب الحفاظ على أطفاله الطلبة. لقد كانت إدارته للمدرسة في ظل الأحداث دافعا له وإلهاما لقيادة التربية والتعليم بشكل عام، خصوصا أننا جميعا هنا نمارس التعليم في ظل الاحتلال والنزاعات. لقد كان قلبه واسعا جدا في التعامل مع الطلبة الثانويين، الذين تكثر جرأتهم/ن على المعلمين؛ ولكن في ظل السحر الإنساني والدبلوماسي لخليل، فقد استطاع بناء جسور معهم قائمة على الثقة والاحترام. وقد كان لخبرته الأكاديمة أستاذا في جامعة بيرزيت دور في ذلك كله، حيث تم تفاعل الخبرة بالوعي والعلم معا.
لقد دفعته التجربة الواعية إلى المشاركة في تأسيس مركز الإعلام والتنسيق التربوي، الذي تكوَن من منظمات تربوية قبل قيام السلطة الوطنية، كان له دور فعال في إيجاد وتقديم سبلٍ تربوية بديلة تهدف لتعزيز التربية في فلسطين، من خلال إنشاءه مأسس مركز الإعلام والتنسيق التربوي الفلسطيني، بهدف تجاوز التربية التقليدية إلى تربية إبداعية تخلق شخصية للطلبة إنسانيا ووطنيا، وقد تفعل النقاش خلال عقد من السنوات في مجالات التعلم الفعال من خلال العمل مع المعلمين/ات.
ولعلي أذكر ما هو شخصي، حينما كانت هناك دورة تأهيل نقابية للمعلمين عام 1993، حين قرأت كلمة في نهاية الدورة، فما كان منه إلا أن شجعني، وكنت في بداية عملي معلما، فطلب مني الكلمة لنشرها في نشرة المركز. لقد كان ذلك محفزا لي بمواصلة المشوار.
فيما بعد، شارك الأستاذ في تأسيس وزارة التربية والتعليم التي تقام لأول مرة، حيث أوكلت له مهمة العلاقات الدولية، والتي من خلال علاقاته التربوية الواسعة، فمن خلال خبرته في هذا المجال، استطاع تجييش الدعم اللازم لتأسيس الوزارة، وكنا شاهدين على جهوده، إذ سرعان ما تشرفت بالعمل في الإعلام التربوي بقيادته، ولمست عن قرب تجليات العمل الوطني من خلال التربية. وأذكر كيف كان يهتم بخلق الكوادر ومنحها الثقة والمسؤولية، وكيف كان يؤهلنا بحنان ورفق ومهنية لمواصلة المشوار. كان يصطحبنا في الاجتماعات؛ حيث خاطب مرة وزيرة التربية في مقاطعة وستفاليا الألمانية، بأننا نؤسس للعمل التربوي، مشيرا لنا في الصف الخلفي، باعتبار أن طول فترة الاحتلال أثرت سلبا على العمل التربوي، وهذه فرصة تجاوز ذلك.
حين اطمأن الأستاذ على التربية والتعليم، لبى دعوة للعمل في اليونسكو، فتمتعه بالخبرة الوطنية والإقليمية والدولية أهّلته لتولّي منصب مدير المعهد الدولي للتخطيط التربوي في اليونسكو، عام 2010، وقد كتبنا في ذلك الوقت عن دلالة هذا الحدث. وبشكل خاص وظف الأستاذ خبرته الفلسطينية في التعليم في ظل النزاعات وتحت الاحتلال، في وضع خطة استرتيجية للتربية والتعليم في أفغانستان، وفيما بعد ساهم من خلال اليونسكو واليونسيف في صياغة وتخطيط عملية دمج اللاجئين السوريين في سلك التربية والتعليم في الأردن الشقيق.
ولم يكن يغيب عن الأستاذ وهو التربوي والمناضل السياسي والوطني أيضا البحث في ممكنات إيجاد تربية تؤسس للتعددية والتنوع واحترام المرأة والسلام، لكن للأسف لم يكن هناك مجال لتعميق ذلك في ظل بقاء الاحتلال وتجذره، كانت فلسفته تنبع من الأسس الوطنية التي تؤكد على حقوق شعبنا في التحرر والسيادة.
وبالرغم من كون الأستاذ خليل سياسيا ومناضلا، إلا أنه في لحظة تاريخية اختار التركيز بشكل كبير على العمل التربوي، كون اعتقد أن خلق تربية حديثة كفيلة بأن تسهم في حرية الشعب الفلسطيني، عبر جعل التعليم تنويريا.
إن إيمانه باستخراج الطاقة الإنسانية من الطلبة والمعلمين، ستكون دائما الطريق الحقيقي ليس للتحرر فقط بل وضمانه على المدى البعيد.
ظل تربويا حتى اللحظة الأخيرة..وإلى آخر مدى!
أرجو الا يكون آخر التربويين الكبار في بلادنا!
وأختتم بما قاله الأستاذ خليل:
كنا عائلة واحدة بكل أفرادها يعملون معا للحفاظ على منزلهم (مدارس الفرندز) مرتبا ونظيفا لنتمكن نحن، وأطفالنا، والأجيال القادمة من الاستمتاع والافتخار به."
وبما طبقه في البيت والمدرسة والجامعة والعمل من هنا إلى العالم: "الشجاعه، القياده، والأخلاق والحقيقه والجديه في التفكير..".
وداعا أبا ساجي..